شذرة من الصحيفة السجادية



من دعاء الإمام زين العابدين علي بن الحسين (ع) في وداع شهر رمضان.
قوله: ((أللَّهُمَّ يَا مَنْ لا يَرْغَبُ فِي الْجَزَاءِ)).

يكشف لنا الإمام زين العابدين في هذه الفقرة من كلامه خُلُق من الاخلاق الإلهية التعاملية والتي يتعامل به الحق تعالى مع عباده، ومُحصله أن الحق جلّ شأنه لا يرغب بالجزاء من عباده على ما أولاهم من نِعمه وما قدّم لهم من عطاياه وما دفع عنهم من بلاياه، فحينما يدفع عن العبد مصيبة ما أو مَهلَكة فليس عنده رغبة في أن يصدر جزاء من العبدِ لله على ما فعل، سواء كان ذلك الجزاء فعلياً أو قولياً؛ بل ولا يلتفت اطلاقاً؛ لأن عدم الرغبة بمعنى انعدام الداعي الذاتي لذلك، فكل ما يُقدّم الله ويُقدّره لعباده لا يطلب ولا يرغب ولا يتأمل منهم جزاءاً على ذلك.

ثم إن كشْف الإمام زين العابدين لهذا الخُلق الإلهي التعاملي لا يخرج عن سببين حسب فهمِنا:

الأول: هو لأجل التعريف بالله تعالى، فإنه أراد أن يُعطي معرفة تفصيلية للناس عن ربهم وإلههم ويُبيّن طريقة من طرق تعامل الله مع خلقه.

الثاني: هو أن الإمام أراد من هذا الكشف أن يحث العباد على التخّلق بهذا الخُلُق، وأن يتقربوا لله تعالى من خلال الاقتداء به والسير على طريقته في التعامل، ويُطبِقوا هذا المبدأ في تعاملاتهم؛ فيرتقوا بها الى مرتبة رفيعة من التعامل، وعلى ذلك يكون التطبيق لهذا التعامل من جهتين:

الجهة الأولى: التعامل مع الحق عز وجل.

وذلك بأن لا تطمع بجزاءٍ على عملك لله تعالى، سواء كان عبادة أو طاعة أو تطوعاً أو أي عمل صالح؛ بل ولا ترغب في أجرٍ على ما تقوم به؛ بل ولا تأمل ذلك.

حينئذٍ سيسقط الدافع الجزائي الذي يُحرك الفرد المؤمن للأعمال العبادية ويحل محله دافع آخر والذي يترتب وِفق درجات عديدة أبرزها:

الدرجة الأولى: أن تعمل العمل العبادي أو الصالح عموماً انقياداً لفروض العبودية، فأنت عبدٌ مملوك لسيّدك، فيوجب عليك هذا الانتساب أن تعمل وتقدّم لسيّدك وبارئك ما يريد أو يرغب، وهذا من شروط وآداب العبودية.

الدرجة الثانية: أن تعمل العمل أو تفعل الفعل نظراً لاستحقاق الله تعالى، فترى أن استحقاق الحق عزّ وجلّ أن يُعبد وأن يُقدم له كل عمل صالح.

الدرجة الثالثة: بها يكون محرك الفعل هو التخلق بأخلاق الله تعالى والتشبه به في أفعاله وطرائق فعليتها، فيكون على وجه التبادل في التعامل والنابع من العدالة.

الدرجة الرابعة: أن تفعل الفعل لأنه ينبغي أن يُفعَل.

الجهة الثانية: التعامل مع الخَلق.

وجوهره أن لا تتأمل جزاءاً أو شكراً من مخلوق على شيءٍ قدّمته أو خير اصطنعته، وتقطع كل رغبة في ذلك، إنما تُقدِّم دون الالتفات الى مقابل.

حينها ستخبو قوة الدافع الرجائي أو الطمعي وتحلّ محلّه دوافع أنقى وأشرف مرتبة، ومنها:

أولاً: ان تعمل الخير والصلاح وتقدم ما ينفع الناس نظراً لاحتياج الخَلق، فيكون الدافع من أعمالك هو سدّ احتياج الخلق وإكمال نواقصهم.

ثانياً: يكون المحرك هو نشر وتثبيت هذا الخُلُق التعاملي بين الناس -كما فعل الإمام زين العابدين- وهي غاية شريفة وقضية رفيعة.

ثالثاً: ويكون الدافع هو المساهمة في تكميل النظام التعاملي العام والرقيّ به الى مستوى أعلى، وتجريده من بعض المفردات التعاملية البدائية.

رابعاً: به يكون المحرك نحو فعل الخير هو الاقتداء بالله تعالى في تعاملاته مع خلقه، وبما أننا خلفاء الله في أرضه فينبغي أن نتخلق بأخلاق من استخلفنا ونتعامل بتعاملاته، حتى نبلغ رتبة الاقتداء الفعلي، فإن خير من اقتديت به هو الله جل جلاله.

 

وله المنة.

                                                                                                              منتظر الخفاجي
                                                                                                                9 جُمادى الآخرة 1445



جديد قسم : مقالات

إرسال تعليق