حين النظر الى هاتين الآيتين وهما قوله جلّ جلاله: (ونَزَّلنَا عَليَكَ الكِتَابَ تِبَياناً لِكُلِ شيءٍ) النحل-89- وقوله: (مَّا فَرَّطنَا في الكِتَابِ من شيءٍ) الانعام -38- وفهماهما على المستوى الظاهري لهما فإن هذا الكتاب والذي هو القرآن الكريم جمع علوم ومعارف كل ما يصدق عليه مفهوم الشيئية؛ أي كل ما حوى الكونان المادي والمعنوي من مستوى نزوله الى ما دون ذلك إلا عالم الذات الذي هو فوق ذلك.

   هذا، وان الاحتواء الكلي للقرآن يُفهم منه للمتفكر بهاتين الآيتين أكثر مما يتبادر للذهن من جمعه لكل العلوم والأسباب الموصلة الى السعادة والرفاه الاجتماعي أو الازدهار الاقتصادي أو الاعتدال التشريعي أو الكمال النفسي والرُقي الروحي وغيرها؛ بل حوى نقائض وأضداد ذلك وبيّنَ الطريق الموصلة إليها وبيّنَ عواقبها على الصعيد الدنيوي والاخروي والمعنوي، وهذه من الشمولية المركوزة فيه.

   فيستطيع كل مُدرِك أن يأخذ من هذا الكتاب حاجته سواء كان من البشر أو الجن أو الملائكة وحتى ما دون ذلك على اختلاف المستويات النفسية والعقلية والاتجاهات والطرق من الفوائد والأضرار، ولا عجب في ذلك بما أنه صادر من العالَم المسيطر على هذا الكون والمتحكم فيه ـ أي الكون ـ من كمالاته ونقائصه سائراً باتجاه الهدف الأعلى له والمتحقق لا محالة وان بعد دهراً طويلاً.

   ففي كل مرحلة كمالية تصاعدية أو تسافلية يكون هناك قانون قرآني مساوقاً لتلك المرحلة ومُنظّماً لمسيرها داخل دائرة الوجود العام، به تصل إلى المرحلة اللاحقة في سُلّم الكمال حتى تصل إلى ما تكتب لها قدرتها التكوينية أو الاستعدادية من الحظوظ الاستحقاقية.

   فعلى صعيد الديانات السماوية والديانات الأخرى فإن لها في هذا الكتاب المجيد مستويين من الحياة بما أن كل شيء إذا توقف مات.

  المستوى الأول: التدارك الكلي. وهو الاستفادة من القرآن بالمنهج التشريعي الكلي المتصل بالحلقة العليا والمتمثل بالتشريع الإسلامي وهو على قسمين:

  القسم الأول: هو التشريع أو قل القانون الجزئي، والمتمثل بالإسلام الحالي.

 القسم الثاني: هو القانون الكلي، وهو المتصل بما فوق التشريع وبما فوقه وبه يكون التنقل المرحلي في الإسلام.

  واعلم أن كل هذه المراحل هي جزء من الأنظمة والتشريعات الموجودة في القرآن.  

  المستوى الثاني: هو مستوى التدارك الجزئي المتمثل بأخذ التشريع الخاص بالديانة والمُحيي لها، وهو قانون متكامل على كل الأصعدة.

  لكنه يفرق عن سابقه أنه أطول نسبياً للوصول للغاية، لكن النتيجة واحدة إذ ليس هنالك اعتبار للزمان بالنظر الواقعي الإلهي.

   كذلك على مستوى الأفراد فيستطيع كل فرد أن يأخذ نصيبه من هذا الكتاب والذي يوصله الى غايته سواء كانت دنيوية أو أخروية؛ بل وبتعدد الغايات. فالاستفادة من القرآن لا يشترط بها ما يعتقده البعض من الأمور المعقدة بل يستطيع أي إنسان أن يأخذ من ذلك الكتاب العظيم استحقاقه مهما كان معتقده بما أنه ـ أي القرآن ـ هدىً ورحمة وبشرى، فإن كان الهدى والبشرى خاصان فإن الرحمة عامة (وَمَن يُرِد ثَوَابَ الدُنْيَا نُؤتِهِ مِنهَا وَمَن يُرِد ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤتِهِ مِنهِا) سواء من الدنيا المادية أو الدنيا المعنوية أو الآخرة المادية أو الآخرة المعنوية، والقرآن هو ضمن الدنيا وكذلك ضمن الآخرة. فيستطيع المسيحي أن يأخذ من القرآن ما يكامله في دينه ودنياه ويستطيع اليهودي أن يأخذ منه ما يكامله في دينه ودنياه ويستطيع البوذي أن يأخذ من القرآن ما يكامله في دينه ودنياه وهذا داخل إطار (تبَياناً لِكُلِ شيءٍ) لكن ذلك متوقف على مقدمات أو قل استعدادات وهي:

   المقدمة الأولى: أن يكون هناك اعتقاد بهذا الكتاب، وأقله إن هذا الكتاب سوف ينجدني في إيجاد ضالتي.

   المقدمة الثانية: الإرادة الحقيقية، والمقصود بها إرادة الشيء الذي يريد استخراجه من القرآن، فلكل مطلب مستواه من الإرادة فإن نقصت ضلّ عنه مطلبه وإن زادت أخذ مطلبه بشمولية.

   المقدمة الثالثة: شيء من التحمل الموجب لإزالة الصعوبات التي من المحتمل مواجهتها.

   فإن تحقق هذا المستوى من الاستعداد أُعطي الإنسان ما أراد، نعم هذا على وجه العموم أما إذا أراد صاحب الكتاب جلّ جلاله ما هو الأصلح لذلك الطالب فهذا من الرحمة المُرضية.

   فإن قال قائل: إننا نقرأ القرآن فلا نجد ما تقولون من أن القرآن الكريم ضّم بين دفتيه كل كليات وجزئيات الكون، فلا نرى إلا آيات تشريع ووعد ووعيد وتهذيب وقصص وعبر، فلا يتحدث عن الفيزياء أو الطب أو علم النفس أو غيرها من العلوم؟

   قلنا إن جواب ذلك من وجوه:

   الوجه الأول: إن العلة في القارئ لا المقروء، فإن أكثر القارئين يقرأون القرآن لأجل الثواب ليس إلا، والبعض وهم الأقل يقرأ لأجل الاستنباط التشريعي فقط، والبعض وهم قلة كذلك يقرأ لأجل استخراج قانون معين، أي أن هناك غفلة من قِبل القارئ عن الجوانب الأخرى للقرآن. أضف إلى أن السائل يسأل عما يراه هو وإلا فإن غيره يجد في الكتاب ما لا يجده، وهو ما ذكرنـاه ليس ببعيد، فإن جمعنا أولئك فإنك ستجد أن كل صاحب اختصاص يأخذ ما يخصه من القرآن.

   الوجه الثاني: هو قصور الإنسان أو قُل تقصيره، إذ يستطيع الإنسان ـ وأعني الفرد ـ أن يقرأ الآية ويلتفت إلى أكثر وجوهها ومستوياتها، ولكنه يمر عليها مرور الكرام. 

   الوجه الثالث: وهو جواب الحق جلّ جلاله إذ يُجيب على السؤال قائلاً: (سَأصرِفُ عَن آياتيَ الذِينَ يَتَكَبّرونَ في الأرضِ) أي المحتجبة قلوبهم بحب الدنيا والشهوات، والإصراف هو عن فهم الآية لا عن قراءتها أو رؤيتها سواء الآية القرآنية أو الكونية أو النفسية. وهذا هو السبب الأعم والأكبر لعدم فهم آي القرآن بالفهم المطلوب، ولكي (لا يَمَسُّهُ إلاَّ المُطَهَّرُونَ) أي لا يصل إلى مكنون علمه إلا من طهّر قلبه وخلَّص نيته، وعلى قدر الطهارة يكون الوصول والحصول.

   الوجه الرابع: هو أن السبب نقص الإرادة. فإن لكل مستوى من مستويات آي القرآن درجة من الإرادة المهيمنة على باطن الآية.

   الوجه الخامس: وهو التخطيط الإلهي. فإن في كل مرحلة من مراحل تكامل البشرية يفتح الحق جلّ جلاله بعض آياته المؤثرة في تكامل البشرية في تلك المرحلة والتي تكون مقبولة لديهم على ما هم عليه من المستوى النفسي والعقلي.

   الوجه السادس: إن أسلوب القرآن هو أسلوب إجمالي لأصحاب الإدراك الداني والمتوسط، وتفصيلي لأصحاب الإدراك العالي (وكَذَلِكَ نٌفَصِلٌ الآياتِ لِقَومٍ يَتَفَكَّروُنَ) وهذا من ضمن نظام العدل في الاستحقاق.

   فلو أن فيزيائياً أو طبيباً أراد أن يستخرج من القـرآن ما أراد لوجده، ولكن أين ذلك المريد؟‍‍‍‍‍‍‍‍!.‍‍

   إنما ما قاله السائل من أنه يرى عند قراءته للكتاب آيات الوعد والوعيد وغيرها، فإن ذلك هو من العطاء العام أو قل النظام العام وهو القاعدة والأساس لما فوقه، وهذا الظاهر القرآني إنما هو لعامة الناس وهو المؤهِل للمستوى الأخر للكتاب. وبما أن الهدف واحد أصبحت القاعدة واحدة.

   فإن قال قائل: كيف تسنى لهذا الكتاب الصغير في حجمه أن يضم في طياته هذا الكون الشاسع الذي لا تعرف له نهاية وبكل جزئياته فضلاً عن الكون المعنوي والذي هو أوسع من الكون المادي بحيث لا يقاس به؟!.

    قلنا: أن القرآن لم يضم الكون المعنوي ككل بل ولن يستطيع ذلك مهما أُوتي من مراتب الكمال، كما ذكرنا في ما سبق من أن عالم الذات خارج نطاق القرآن لأن نزول القرآن من عالم الجبروت وليس من عالم اللاهوت وهو العالم الباقي.

   أما شموله للكون المادي والكون المعنوي لما دون عالم الذات فإن هذا من الإعجاز الواقعي للقرآن.

   إذ أن الإعجاز ليس مقتصراً على الصيغة البلاغية أو الأدبية أو الإخبار بالمغيبات أو نظامه التشريعي والقانوني الصالح لكل مراتب المجتمعات سواء الظالمة منها أو التي هي في أعلى مراتب الإيمان؛ بل هنالك من إعجازه ما هو أعلى من ذلك! ومنه على سبيل المثال إن أي آية من آياته تناسب جميع المستويات النفسية والقلبية والعقلية والروحية على اختلافها ليس للبشر فحسب بل للجن والملائكة. أي الكل يأخذ منه ما يتكامل به.

   هذا، وكان من الإعجاز الواقعي ما في عدم بيانه للخلق المصلحة الكبرى في الحكمة الأزلية لعدم وجود القابلية النفسية والعقلية لفهمه وبالتالي لتقّبله.

   ولا يغفل السائل من أن صاحب الكتاب هو مُكّون الأكوان فظهور الأمور الكلية فيه ـ أعني القرآن ـ المنطوية على جزئياتها تكفي لذلك.

   فإن قال: إنا قد فهمنا من كلامكم أن للقرآن مستويات عديدة، فكيف يتسنى لنا الدخول أو الوصول إلى هذه المستويات؟.

   قلنا: أن ظاهر القرآن بوابة لبواطنه وبواطنه بوابة لواقعه، فمن قَوِيَت إرادته وطَهُرَ قلبه وخرج من قيود التفسير وتدبّر فيه حق تدبّره فسوف تُفتح له أبواب هذا الكتاب العظيم قال تعالى: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ (78) لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (80) الواقعة. {في كتاب مكنون} أي مستور لا يصل الى فهم حقائقه وأسراره، ولا الى معارفه الكائنة في علم الله (وهي المعاني الواقعية) الا من طهُرت سريرته ونَقِيَ باطنه، وخلاف ذلك فليس له الا ظاهره وأقوال أهل التفسير.

وله الحمد أن حبانا بنعمة القرآن

 منتظر الخفاجي



جديد قسم : مقالات

إرسال تعليق