من الظواهر الاجتماعية السلبية التي زخر بها المجتمع وقد توسعت في السنوات الاخيرة هي ظاهرة التحرش الجنسي باختلاف مراتبه الكلامية والفعلية، والذي كان للتطور الاجتماعي مساهمة كبيرة في توسع هذه الظاهرة، فما أعطى التقدم من الحرية على الصعيد النفسي أدى الى كسر بعض القيود الاجتماعية وتجاوِز بعض الحدود العرفية.


   والتحرش الجنسي : هو كل كلام او فعل ذو طابع جنسي ينتهك خصوصية الآخر. ولهذه الظاهرة أو الآفة القابلية على التوسع الكمي والنوعي، حيث بالإمكان ان تخرج من صورة التحرش البسيط الى الجرائم الجنسية الكبرى، لذا فهي من المخاطر التي يمكن ان تدمّر أي مجتمع وتقضي على منظومته القِيَميَة بسهولة.


   ولا تخلو أيٌ من المجتمعات البشرية من هذه الظاهرة السلبية، انما تختلف نسبتها من مجتمع الى آخر تبعاً للضوابط الموجودة في كل مجتمع وإلّا فان الدافع الأولي الذي تأسس عليه التحرش موجود في كل انسان، كل ما في الامر ان ذلك الدافع او الغريزة انحرفت من جهة التطبيق او الاشباع فتحولت الى تحرش او تعدي او اغتصاب او غيره.


   ورغم ذلك فإن من يقوم بالتحرش -وهم قلة من البشر- لابد من وجود أسباب أوصلته الى هذه المرتبة المتدنية بحيث يسهل معها صدور هكذا افعال او تصرفات.


   ان من امهات الاسباب التي تدفع الانسان للتعديات الجنسية بأي مرتبة من مراتبها هي:


   أولاً: ضعف القيود النفسية والصفاتية المانعة من طغيان الشهوة الجنسية. فكما هو معلوم ان فعل التحرش ناشئ بالدرجة الاولى من القوة الشهوانية مع بعض الغرائز المساعدة لكن المؤثِر الأكبر في توليد هذا الفعل هو الشهوة الجنسية، فإن ضعفت أو انعدمت القيود والضوابط التي تُقيّد هذه الشهوة فسوف تنفلت الشهوة وتفعل كل ما يغذي جوعها الذي لا يمكن ان يشبع، ومن أبرز هذه القيود النفسية أو الصفاتية هي الحياء وكذلك الخوف وايضا الغيرة وغيرها من الصفات التي ان ضعُفت عند الانسان ضعفت الموانع عن فعل التحرش.


   ثانياً: ضعف الواعز الديني والاجتماعي، فإن الدين من أكبر القيود بالنسبة للرغبات والشهوات النفسية والتي تُخرج الانسان من إطار انسانيته الى المرتبة الحيوانية، فيُقيّد الدِين الشهوة الجنسية ويحافظ على بقائها في حدود اطارها الطبيعي، لذلك نجد المجتمعات المتدينة فعلاً (المطبقة حقيقية للدين وليس ادعاءً) تقل فيها نسبة التحرش الجنسي، وتوجد احصائيات بذلك. 

                                

   ثالثا: ضعف الدور الحكومي، فإنْ ضَعُفَ دور الدولة من جهة التشريع والتنفيذ والمراقبة لظاهرة التحرش، فسوف تنتشر هذه الظاهرة انتشاراً منقطع النظير؛ لذلك نرى الدول التي تُشرّع أقسى العقوبات لجريمة التحرش قَلّت فيها نسبة الجرائم الجنسية.


   رابعاً: قصور التربية المنزلية. فإن التربية في المنزل هي الاساس الاول لتكوين وصياغة شخصية الفرد، فاذا ضعف دور المنزل وأَهملَ الآباء والامهات دورهم الحقيقي فسوف تمسي العائلة أقرب الى الهلاك الاخلاقي. فدور العائلة هي زرع المفاهيم والعقائد الصحيحة في اذهان الابناء وتحذيرهم من كل ما هو ضار او يؤدي الى الضرر الاكيد. 


   خامساً: عدم النظر الى العواقب. إن أمعنا النظر سنجد أغلب التصرفات الخاطئة منشئها الجهل، ومن ذلك الجهل بالعواقب، فحينما لا ينظر الفرد الى العواقب السيئة لأفعاله ستضعف الموانع من الاتيان بذلك العمل، كذلك الحال بالنسبة للمتحرشين، فإن عدم نظره الى عواقب فعلته دنيوياً وأخروياً وما سوف يلحق به من ضررٍ مؤكدٍ جراء افعاله؛ هو ما يُسهّل علية الاقدام على هكذا تصرفات.


   ومن العواقب والاثار التي تعقب حالة التحرش الجنسي وتعود على المتحرش بالضرر الاكيد، يمكن تقسيمها الى ثلاثة أقسام:


    القسم الاول: الاضرار الدنيوية، ومنها:


   أولاً: ما يعقب المتحرش من تبعات قانونية، جراء التحرش الجنسي، فلربما يُلقى في السجن عدة سنوات، فيضيع من عمره سنوات عديدة بسبب فعل لا يستحق كل تلك الخسارة.


   ثانياً: السقوط الاجتماعي، فمن يتحرش سوف تسقط سمعته وقيمته في المجتمع، ويكون مستحقراً عند كل من يعرفه إلّا من كان مثله.


   ثالثاً: ان التحرش بكل انواعه هو من الظلم والذي لابد أن يرتد على فاعله، وهو ذنب يطول ندمه وتصعب مغفرته.


   رابعاً: ايضاً مما يعقب التحرش الجنسي هي المشاكل الكبرى بين المتحرش واولياء من تحرش بها، وكثيراً ما رأينا شباباً سببوا لأنفسهم الموت بسبب التحرش.


   القسم الثاني: الأضرار الأخروية التي تعقب خطيئة التحرش ومنها:


  أولاً: ان التحرش من الذنوب التي يعقبها خزي في الدنيا وعذاب في الاخرة؛ بل هو من الظلم الذي لا يتركه الله تعالى كما جاء في الحديث الشريف عنه عليه الصلاة والسلام: ( ....... وأما الذنب الذي لا يُترك فظلم العباد بعضهم لبعض الخ).


   ثانياً: ان التحرش والتعدي الجنسي هو اهانة وتعدي على كرامة المرأة –ان كان المتحرش ذكراً-، ومن يتعدى على كرامة الناس فلا كرامة له عند الله واولياءه.


   ثالثاً: إن من أبشع الذنوب وأحقرها هو ما ارتبط بالشهوة الحيوانية، وهي من الذنوب التي تكون فضيحتها أكبر من غيرها يوم القيامة حينما تفضح الاعمال أمام كل الخلائق من الاهل والاصدقاء والانبياء والاولياء وغيرهم.


   القسم الثالث: عواقب التحرش على الصعيد المعنوي نذكر منها:


   أولاً: من الآثار المعنوية للتحرش أو التعدي الجنسي هو النزول الخُلُقي، حيث صدور الفعل التحرشي يأذن بنزول مستوى الصفات الحميدة التي يحملها ذلك الشخص وانفتاح الباب لتولد صفات رذيلة، وهذا من أشد المخاطر التي قد تتولد من ذنب ما.


   ثانياً: قد يستحي الفرد من التحرش وان كان لديه الدافع لذلك، فيكون الحياء مانع عن صدور ذلك الفعل، لكن حينما يكسر الفرد جدار الحياء وينزل الى مستوى هذا الفعل الدنيء فقد كسر مانعاً كبيراً كان عاصماً له عن النزول الى رذائل عديدة وليس فقط التحرش، حينها سيسهل عليه اقتراف عدة آثام رُفِعتْ عنها الموانع.


   ثالثاً: مما يعقب خطيئة التحرش نزول في المستوى العقلي، فمن يجرئ على التعدي والتحرش فقد أضعف عقله بما أن العقل هو من يعقل (يربط) النفس عن مواقعة الآثام.


   رابعاً: ما يسببه التحرش وما يشاكله من الذنوب الجنسية هو الابتعاد عن الفطرة، وهذا ليس خاصاً بالتحرش بل بكل الخطايا.


   خامساً: على المتحرش ان لا يأمن على عِرضه من التحرش، فمن تجرد من الغيرة على نساء غيره فلا يرجو من الله غيرة على نساءه!.


    وهنالك أضرار معنوية أدق مما ذكرنا ليس محلها هاهنا.


   اما مسائلة القضاء على آفة التحرش أو اضعافها أو التقليل منها، فإن ذلك يتطلب عمل جماعي وتظافر جهود عديدة معنِية بهذا الشأن، وقد تنفع بعض الخطوات في التخفيف من هذه الظاهرة البشعة اذا ما عُمل بها وأهمها:   


   الخطوة الاولى: ينبغي على الجهات الحكومية ذات الشأن تشريع القوانين وتشديد العقوبات والنظر الى جرائم التحرش وما يتولد منها بمستوى النظر الى الجرائم الاخرى بل أعلى منها، وبمستوى خطورة هذه الجرائم وما تجر من جرائم أخرى، وتحرص على تطبيق تلك القوانين من قِبل الجهات التنفيذية.


   الخطوة الثانية: على الوزارات التربوية (وزارة التربية، التعليم العالي، الثقافة، الاعلام، الشؤون الدينية ....الخ) وضع برامج وخطط للتعامل مع هذه الظاهرة وغيرها من الظواهر السلبية التي تتولد في مجتمعنا أو تُصدّر إليه، فتسلط الضوء على هذه الظاهرة المنحرفة وتبين اضرارها على الفرد والمجتمع، وترفع من المستوى الثقافي والفكري الجمعي والذي نضمن من خلاله ابتعاد واستنكار فئات المجتمع وخاصة الشباب لظاهرة التحرش.


   الخطوة الثالثة: اذا اردنا القضاء على ظاهرة التحرش الجنسي أو اي ظاهرة أخرى تؤدي الى هلاك مجتمعنا فيجب على كل الجهات والشخصيات الارشادية والتوعوية من رجال دين وأصحاب المنابر والمصلحين الاجتماعيين واصحاب الاقلام وأرباب الكلمة، ان يعملوا على تحذير وتخويف المجتمع بكل السُبل من هذه الظاهرة وتقبيحها في أعين الناس، وبيان أضرارها على من يقوم بها، وكلُ يعمل من زاويته.


   الخطوة الرابعة: يجب على الآباء والامهات تفعيل دورهم التربوي المُعَطّل، والذي اذا ما فُعّل فسوف يزرع المفاهيم والقيم في نفوس الابناء منذ الصغر، ويُوضَح للأبناء الظواهر الموجودة في المجتمع ويُبيَن ما هو الضار منها وما هو النافع، ويُحذَر الابناء من الدخول في السلبيات الاجتماعية، فحينما يبين الأب والام لابنهما سلبيات التحرش الجنسي وأضراره دنيوياً وأخروياً فسوف نجنب أبناءنا الوقوع في مهالك الرذيلة، ونختصر لهم الطريق لبلوغ الاهداف المثلى.


   فاذا تظافرت الجهود وتوحدت الاهداف فسوف لن تبقى ظاهرة سلبية في مجتمعنا، وإن ظهرت فلا تلبث الا أن تزول. اعتقد ان هذه الخطوات اذا ما طُبقت فلن يبقى أثراً سلبياً للتحرش الجنسي أو ما يتولد منه.


                    حفظنا الله تعالى وإياكم من كل سوء.

 منتظر الخفاجي

16\3\2023



جديد قسم : مقالات

إرسال تعليق