المعتقدات هي عبارة عن أفكار يقتنع بها الإنسان فيعقدها في قلبه أو فكره ، عندها سيكون لها أثراً في كل ما يصدر منه من قرارات أو قناعات أو أفعال وتروك ، فتكون مجموعة هذه المعتقدات قالب يقوِلب ويصوغ كل داخل أو خارج الى هذا الفرد .

   ثم إن هذه المعتقدات قابلة للانحلال والزوال من قلب الفرد ، وذلك بعدة صور:

   الصورة الأولى :هي فيما إذا ترقى الفرد وتبينت له معتقدات جديدة –جديدة بالنسبة إليه فربما هي موجودة في القرآن أو السنة- تتناسب ومستوى رقيه الجديد ، فيكون هنالك دافع للاعتقاد الجديد وبالتالي التخلص من القديم حين التزاحم ، وهذا من الترقي في العقائدي والتطور في الفكر.

   الصورة الثانية :هي إذا تدنى مستوى الفرد وأصبح مستواه الكلي أدنى من مستوى عقائدِه ، عندئذ سوف يقل احترامه لمعتقداته وتبدأ بالانحلال من قلبه ثم الانسلاخ الكلي منها ، وطبعاً لن يبقى هذا الفرد المتدني من غير عقائد ، إنما سيجد ضالته بل يجد ذاته في العقائد الدانية والمتردية .

   وهذان هما الطريقان الرئيسان لزوال العقائد وانحلالها .

   الذي يهمنا هو الصورة الثانية لأنها طريق ضرر محض ، وهي الأكثر شيوعا في مجتمعنا في الوقت الراهن ، فينبغي أن نسلط عليها شيء من الضوء.

   المجتمعات عموماً سواء المتدينة وغير المتدينة تعيش الآن مرتبة من مراتب الهبوط العقائدي ، فترى الكثير من العقائد الصحيحة اندرست واندثرت واصبحت أثراً بعد عين ، وطبعاً كانت من العقائد التي لها أثر ومساهمة في حفظ المجتمع من التردي وابقاءه في دائرتها ، وهكذا كل يوم تقريباً يسقط معتقد أو يِضعُف أثره في المجتمع ، كان في المجتمع حب الخير والصدق والأمانة والإخلاص وحفظ الوعد وتقديس المقدسات واحترام القيم السماوية الدينية والاخلاقية وغيرها كلها كانت ثوابت وعقائد لا يتعداها الفرد بحال من الأحوال .

   المفروض أن الفرد أو المجتمع يكون في صعود عقائدي مستمر ، إنا كنا من أصحاب نظرية النهاية الأكمل أو السعيدة لبني البشر وهي الحق ، بحيث يكون المعتقد الكذائي مصاحب للانسان الى أن يسلمه الى معتقد أدق منه أو أوسع منه أو أعلى منه ثم يفارقه إن كان المعتقد في نفس الموضوع . وطبعاً كل هذه العقائد تكون مستفادة ومستوحاة من نظام الخير والصلاح المتمثل بالدين الحق.

   بما أن العقل في تطور مستمر فلن يبقى على معتقد واحد أو أقلها لا يبقى على مرتبة واحدة من المعتقد الواحد. لكننا الآن نرى العكس، ماذا نرى ؟ نرى أن المجتمع صحيح هو في تغير عقائدي ، لكنه في نزول من جهة قيمة المعتقدات حسب اعتبارها العقلي والشرعي، حيث نعيش اختفاء واضمحلال الكثير من العقائد والقيم العقلية أعني التي يحكم العقل بصلاحيتها وعطاءها للفرد ، وكذلك بُعدٌ كبير عن العقائد الدينية التي هي قيود لإبقاء الإنسان في إنسانيته، وبالتالي بُعدٌ عن النظم الصحيحة لترتيب حياة الفرد وتنظيمها.

   فما هي أسباب سقوط هذه العقائد الحقة وتخلي الإنسان عنها؟ .

   ربما يقول قائل : -وكثيراً ما قالوه- إن سبب سقوط هذه العقائد وتخلي الإنسان عنها هو عجز هذه العقائد عن مسايرة الانسان في تطورِهِ ! أو أن صلاحيتها العطائية قد انتهت . نقول :إن كان الأمر كما يقول هذا القائل ، أليس من المفروض حسب النظام العقلي أن يكون بعد نفاد عطاء عقيدة معينة هنالك عقيدة أعلى منها وأكثر عطاءاً ، لأن من ضمن شأن العقيدة الأولى هو ايصال الفرد الى عقيدة أعلى منها لكي لا ينقطع تطور مسير الفرد ، بل لا ينتهي عمل العقيدة الا بعد الايصال الى ما هو أعلى منها وهذه هي خاتمة مراحل عمل العقيدة، وإلا فلن تكون هنالك عقائد تكون مصب للعقيدة الاولى ، ويكون وجود الاولى عبثاً حيث بعد انتهاء عملها يرجع الانسان الى الصفر. ونحن نرى الآن انسلاخ الفرد من العقائد أوصله الى الرجوع والركون الى نفسه والتي هي مركز أفعال أهوائية وعشوائية.

   الشيء الآخر: إن نفاد الفائدة العطائية لأي معتقد يعتمد على اعتناق ذلك المعتقد أولاً ثم انتهاء عطاءه ، بما أنه معتقد عطائي ، وإلا فإن عدم اعتناقه هو انعدام لعطائه أو الأخذ منه مع قابليته للعطاء . والذي نراه في الأغلب وخاصة في مجتمع اليوم ، هو عدم الاعتقاد بهذه المعتقدات بالمرة ، وليس أنه أعتقدها ثم انتهت فائدتها في نظره فتركها وأصبح يبحث عن البديل . وعليه فليس ما طرح القائل هو السبب لانسلاخ الفرد او المجتمع عن عقائده.

   الشيء الثالث: أن هنالك من المعتقدات التي ابتعد عنها الإنسان ما لا نهاية لعطائها وليست محدودة بفترة زمنية أو مرحلية ، مثل المسامحة ومساعدة المحتاج والدعاء والاستخارة وغيرها ، فليس من المتصور أن تكون هذه القيم والعقائد غير ذات فائدة عطائية في مرحلة ما ، علماً أن مثل هذه العقائد أصبحت في طور الزوال في بعض المجتمعات.

   لكن الذي أفهمه أن من أبرز الأسباب التي أدت الى اضمحلال بعض المعتقدات الحقة :

   أولاً : عدم وجود المغذي للعقائد الصحيحة ومدها بالتجديد واعطائها من المساحة ما تستحقها وليس حبسها في زوايا الكتب القديمة ، يجب الوقوف على جوانب ملائمَتِها لكل مرحلة من مراحل تطور المجتمع أو تقدُمِهِ ، عندها يعلم الفرد أن هذا المعتقد أو ذاك يناسب هذه المرحلة وليس غريب عنها .

   ثانياً : سبب عدم قناعة الفرد بالمعتقدات الحقة ، الأغلب هو جهل بحقيقتها واحقيتها … الانسان عاقل وحتى ان كان في أدنى مراتب العقل فإنه يريد مصلحة نفسه بل هو مفطور على ذلك، فإن استيقن أن هنالك شيء له فيه مصلحة أقبل عليه دون تردد – طبعا ان تحققت له قناعة تامة- لأن هذه القناعة هي التي تحركه للعمل طبق الفكرة او المعتقد او القيمة ، ونحن نجزم أن العقائد السماوية هي أعلى ما يحقق للفرد مصالحه المدركة وغير المدركة . لكن المسألة في بيان هذه العقائد بالصورة الواضحة والجلية التي تبرز حقيقة هذه العقائد لا أن تبقى على نفس البيان السابق القديم والذي يجعل الحاضر يراها وقد علاها غبار الماضي فيدعي أنها عقائد أكل الدهر عليها بل الاعتقاد بها مدعاة للتخلف .  وهذا يتطلب أن تبين العقائد الصحيحة بياناً جلياً من جهة فوائدها الحقيقية ومن جهة الخسائر المترتبة على عدم اعتناقها . نحتاج الى التغيير الخطابي، النظر في الأسلوب الخطابي الموروث أسلوب الوعيد والرعيد .

   أرباب العقائد الهابطة التي لا تناسب فطرة الإنسان لديهم من أساليب التوضيح والبيان وأساليب الدخول الى العقول ما يجعل الناس تعتقد بكل ما يأتون به ، فترى أحدنا يتجرد من عقائده ويتلبس بهذه العقائد المستوردة لا لأنه وجد فيها الفائدة العظمى وضالته الكبرى ، وإنما لأنها دخلت عليه من الباب الذي يقبل من يدخل عليه منه .

   ثالثاً : وكذلك من الأسباب ، إن كل معتقد هو عبارة عن قيد ونظام يقيد نفس الإنسان وينظمها بمسير محدد ، والنفس طبيعتها ضد كل قيد ، وراغبة بالتحرر من أي قيد يوصل الإنسان إلى كمال إنسانيته، لذلك جاءت كل الديانات بالعقائد ثم الأعمال ، لأن العقد يعطي مساحة للتطبيق العملي بحيث يَخرُج العمل عن قناعة مسبقة متولدة من ذلك المعتقد أو تلك المعتقدات بمجموعها. فما نشهده من مغريات ومحفزات للظهور النفسي ضعّفَ إمكانية الالتفات الى العقائد المخالفة للرغبات النفسية .

   رابعاً: دنو المستوى العقلي والفكري للمجتمع ، والذي حرم المجتمع من التفكر بما له من كنوز عقائدية والتي هي حصيلة الشرائع والنظم والحضارات السابقة ، وهذا التردي الفكري جعل الفرد يعامل المعتقد الحق معاملة الفكرة البشرية الطارئة الناقصة.

   خامساً : كذلك عدم التصدي للعقائد الهدامة التي تطرأ على المجتمع في كل حين ، لو كانت هنالك أساليب عقلية صحيحة للتعامل مع المعتقدات أو الأفكار الهدامة ، لاضمحلت هذه المعتقدات قبل أن تتمكن من عقول الناس بل قبل أن تدخل الى عقولهم ،لكن ما نرى الآن من طرق التعامل مع هكذا معتقدات لا يؤثر حتى في عرقلة المعتقد أو تبطيئ سيره في المجتمع ،لأننا نفتقر ومع شديد الاسف الى طرق التصدي للعقول أو الحرب الفكرية .

   هذه ربما أبرز الأسباب التي تجعل الفرد يبتعد عن معتقداته ويعتنق معتقدات لا تخصه لا من قريب ولا من بعيد .

نسأل الله تبارك وتعالى أن يثبت العباد على عقولهم أو على دينهم فإن ثبت الأول ثبت الثاني.

والحمد لله رب العالمين والصلاة على سيد الخلق أجمعين وآله الطاهرين. 


منتظر الخفاجي



جديد قسم : مقالات

إرسال تعليق