ورد في ديوان الإمام علي (عليه السلام) أنه قال:
وَتَحْسًبُ أَنَّكَ جِرْمٌ صَغِيرٌ………. وَفيك انطَوَى العالمُ الأكبرُ
   نقول وعلى الله التُّكلان، أن العالم الاكبر هو ما اشتملت عليه دائرة الكمال والذي يدخل تحته عوالم الظاهر والباطن والاملاك والافلاك والعرش والكرسي واللوح والقلم، اي كل ما دون الحق سبحانه، والحق خارج دائرة الكمال تأثراً وداخله تأثيراً.

فكل ما حوى العالم الاكبر هو داخل حقيقة الانسان وهي روحه العليا، فعالم الدنيا حين المعاينة وادٍ صغيرٍ من أودية الروح العليا. والتي هي حقيقة الانسان.

فالإنسان جِرم صغير حين النظر بعين الانفصال وعالَم أكبر حين النظر بعين الاتصال، فمن رجع الى حقيقته في سُلّم الترقي فقد تحقق وجوده الاكبر.

وهذا الرجوع يكون من خلال الترقي في المراتب المفاضة من تلك الحقيقة والتي كان آخر مراتب فيضها ذلك الجِرم الصغير، فهو سير رجوعيّ تكميلي ويبدأ على وجه الحقيقة- أعني بعد تجاوز المقدمات- حينما يطرق الفرد باب باطنه ويفتح نافذة القلب المطلة على عالم الروح، وينقل نظره من عالم الشهادة الى عالم الملكوت، ويبعث نور نظره الفكري الى بواطن الاشياء ثم يردفه بإرسال نور قلبه الى حقائق الموجودات، ويرى من خلال ذلك النور موصلية الوسائط الى حقيقته، ويتمسك بحبل الوصل الممتد من الحقيقة العليا الى سائر الموجودات، فيبدا رحلته انطلاقاً من باطنه الى عالم المعنى.

وأما أبرز العوارض الحاجبة للسائر عن الولوج الى باطنه فهو عالم الاوهام المتمثل بكثرة التصاوير، وليس حقيقة العلة في نفس العالم وجزئياته وانما بالتوجه القلبي أو الكلي لذلك العالم والتعامل وفق ظاهره لا واقعه، وللعقل يدٌ في ذلك، فإن التوجه القلبي لعالم الكثرة يفتح باب النفس لجهة هذا العالم ويتفاعل العقل العملي معه على وجه التنظيم العقلي، وهي الصور الملكوتية المنطبعة في عالم الكثرة.

والخروج من هيمنة هذا الجانب يستدعي:

اولاً: تحول الناظر من البصر المجرد الى البصيرة او البصر الجاذب الى جهة البصيرة واستقبال ما يصدر من عالم المُلك بوعاء القلب لا بمدارك العقل، حينها يتحرك القلب ويورد على صاحبه ما يناسب المقام على سبيل القطع لا سبيل الاحتمال كما واقع عالم العقول.

ثانياً: التمييز بين الخاطر العقلي والوارد القلبي، وهذا يتطلب تفعيل عالم القلب بما يناسبه من الاقبال والادبار والاطمئنان والتردد والكربة والانشراح، وبالتالي التوجه التام الى ما يرد على القلب من عالم الروح، إذ أن تفعيل جهة العقل والتوحد بالاعتماد عليه يميت الجهات الاخرى ويُبقي صاحبه حبيس تلك المرتبة.

ثالثاً: اغلاق باب القلب من جهة النفس، والذي منه يصل الى القلب ما يؤثر في نقاءه وصفاءه؛ فيمنع انطباع الصورة الملكوتية في سطحه او ظاهره.

وذلك يتأتى من مجاهدة النفس ومخالفة أهوائها وجلاء القلب من ريون الآثام بمداومة ذكر الحق تعالى.

فإذا تحقق العبد المؤمن في ذلك فُتحت أبواب باطنه، وأمسى يرى بعين قلبه عجائب ملكوته، فتخرق بصيرته ستار ظاهر عالم الشهادة ويشهد حقائق الموجودات على النحو التفصيلي؛ لكنه سيكون في هذه المرتبة من أهل التلوين حيث ضعف باطنه وبقاء بقية تجذبه الى عالم الجسمانيات بسبب بعض العلائق الكامنة في قلبه، فيُجذب تارة الى عالم الملك وأخرى الى عالم الملكوت حتى يتمكن من مقام القلب ويقف على سره، حينئذ سيكون له السيطرة على التنقل بين العالمين.
فاذا أزال العبد هذه الموانع ولج الى باطنه بسهولة ويسر، وسوف تتحقق لديه النظرة الباطنية ويخرج من مرتبة “يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ” (الروم -7).

(وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ)

منتظر الخفاجي
6\11\2020



جديد قسم : مقالات

  1. وفقكم الله تعالى على هذا الكلام العميق والرائع حقاً

    ردحذف