سماحة الأب المُربي الشيخ منتظر الخفاجي ( دام عطاؤه )

ان الجهل يدعو لسوء الظن؛ ليس دائماً وانما في أغلب الأحيان، خاصة ان لم تكن لدى الفرد مبادئ وركائز تكون دافعة لسوء الظن عن ساحة فكره.


    حينما ينظر الفرد الخالي من المبادئ الُمثبّتة الى وضع البشرية من النزول العام وتفشي الرذيلة وانتشار الجريمة واشتعال الحروب على أتفه الأسباب، وما ينزل من المأساة في الابرياء من الأطفال والنساء والبسطاء من الناس عموما، قد يدفعه الى سوء الظن بالخالق جل جلاله والذي يتشكل في بادئ الامر من تساؤلات، من قبيل لماذا الخالق ساكتٌ على ما يحدث؟ أيرضى الله بهذه الجرائم؟ لماذا لا ُيهلك الظالمين؟ اين عطف الله على خلقه؟؟؟ وبدورها هذه التساؤلات تتحول الى شكوك ثم ظنونِ سوءٍ ثم تترقى الى درجة الاعتراض الصريح. وهذه السلسلة كلها ترجع الى الجهل.


    وأصل هذا الجهل هو الجهل بالنظام العام الذي يُسيّر عالم الدنيا الى غاية وجوده.


فإن معرفة الاحداث بالمعرفة الصحيحة تقتضي معرفة الأنظمة والقوانين المسبِبة لهذه الاحداث، كذلك الاستشراف على الغاية التي تدفع الأنظمة والقوانين لتحقيقها. 


   حينما نجهل فائدة الدواء ونرى الاب يجبر طفله المريض على تناول الدواء ونشاهد الطفل يرفض ويبكي؛ حينها سنسيئ الظن بذلك الاب، لكن حين نبصر حقائق الأمور سوف تتجلى لنا محبة الأب وعطفه. ونرى تحمل الاب لتألم ابنه وبكاءه دون ان يظهر ذلك؛ بل ليس لديه المجال لإظهار عواطفه انما اهتمامه مصبوب على سقي ابنه ذلك الدواء؛ حينها سنبصر تضحيات ذلك الاب لأجل تقديم الاصلح لابنه.


   حينما ترى ولي الامر -الاب او من بمنزلته- يستخدم أساليب الترغيب والترهيب والأساليب المستقيمة والملتوية لأجل أن يدفع ابنه نحو الدراسة أو العمل النافع بدل الانغماس باللهو واللعب، على رغم كره ابنه لما يراد له، قد يعترض الجاهل على فعل الاب ويراه إجحافاً بحق الابن، لكنه حينما يطلع على غاية الاب فسوف يحترم ذلك الاب ويقدر ذلك الجهد الفكري والعملي الذي يقدمه لابنه، وكذلك الابن حينما يبلغ مرتبة الفهم ويسترجع تصرفات ابيه معه فسوف يقدس ذلك الاب بل سوف ينحو نحوه شاء أم أبى لأن غريزة الابوة او الصلة القوية هي من تفرض عليه ذلك. 


   قد يقول المعترض: ألا يستطيع ذلك الاب ان يقدم مصلحة ابنه بغير تلك الأساليب والطرق؟ اليس ثمة طرق أخرى أقل ايلاماً تدفع الاب لتحقيق مصالحه بدل هذه الطرق؟ .
   نجيب على ذلك من وجهين: 


   الوجه الأول: حينما يتخذ الأب الطريق الأصعب فكن على يقين من أنه يأس من الطريق الاسهل، أي إن نظرنا نظرة واقعية تحليلية سنرى ان اتخاذ الطريق الأصعب هو من إختيارالابن وليس الاب! فحينما يغلق الابن كل أبواب العلاج السهل في وجه الاب حينها لن يبقى للاب الا الطريق الأصعب، وكأنه؛ بل هو كذلك لا يريد مصلحته الا من هذه الطريق، حينها سينصاع الاب للواقع الذي أراده الابن ويعمل من خلاله.


   وهذا من ضمن القوانين الحاكمة لعالم الدنيا (قانون الاصلح)، { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا } [ ال عمران : 145].


وليس هذا من باب عجز الأب عن إيجاد البدائل وانما بسبب ضيق المساحة التي يتحرك بها الاب والمُعطاة من قِبل الابن، أما لو أراد ان يخلق مساحة أخرى فهذا معناه ان يبدل النظام بكليته، وليس غير الأفضل الا الاسوء وبديل عن الأكمل الا الانقص وهذا ما لا يريده الأب بأي حال.


    الوجه الثاني: هو ترتيب فوائد عدة على فعل واحد، او قل شمولية الفعل، وذلك حينما يدرس الاب الأفعال الممكنة في ساحة إمكانيات ولده والتي يجدها محددة بسعة ساحة الاب فيحضرها جميعا، ثم ينظر الى تلك الأفعال او الحلول، ويجد منها الاسهل والاصعب والمتوسط، فيرى ان الاسهل سيحقق لولده فائدة صغيرة اما الأصعب فيحقق لابنه عدة فوائد متنوعة ويختصر له سنتين من العمل؛ حينئذ سيختار الأصعب والذي لا يخرج من دائرة تحمل ابنه على الرغم من وجود صعوبة نوعية، فهنا سيختار الاب ما لو كان ولده مكانه لاختاره! لكن حينما يختار الاب الحل الصالح ويؤخر الحل الاصلح فسوف يكون محل عتاب لدى الابن في المستقبل حينما يبصر الابن ان اباه قدم له الأدنى وترك الأعلى ولن تشفع له حينذاك عاطفته على ابنه.


    الله جل جلاله ليس أباً للإنسان بل من يظن ذلك فقد ظلم الله تعالى، فليس رابطة الابوة ان قيست برابطة الله بعباده الا جزء من ملايين الأجزاء، وابسط صورة لذلك في مواطن الاضطرار الحرج قد يهمل الأب مصلحة أبناءه، وهذا ما لا يفعله ولم يفعله الله اطلاقاً مع أحد من عباده حتى العاصين والخارجين عن أمره، انما كل أفعال واعمال الله تعالى مع خلقه هي منظورة من زاوية واحدة حصراً وهي زاوية مصلحة العباد من تلك الأفعال والاعمال، فليس لله مصلحة في ذلك اطلاقا فهو غني عن النظر لمصلحته، ولو كان هناك مصلحة لله فهي مصلحة عباده.


    ثم أن صدور الابن عن ابيه انما هي رغبة، فإما رغبة غير مقصودة وأعني بها شهوة التقارب، واما هي رغبة التكاثر لطلب الولد؛ لأنه رغب ان يكون لديه ذرية تساعده او تحفظ اسمه او غيره، أما صدور الخلق او الانسان عن الله تعالى فهو صادر عن محبة وليس عن رغبة مدركة او غير مدركة، فإن الله عز وجل أحب ان يوجِد هذا المخلوق لكي يضفي عليه من عطاءه ولا ينتظر شيئاً بالمقابل.


    الكثير منا يتفكر في تصرفات أبيه معه ويحاول ان يفهمها، لكن للأسف فإن القلة منا من يتفكر في تصرفات الله تعالى معنا وفَهم غايته من ذلك. 


    حينما نفهم المقدمات الإلهية او النظامية لخلق الانسان؛حينها ستزول طبقة كبيرة من الجهل، وإذا حللنا الأفعال الإلهية الفردية -أعني الأفعال التي تخص الفرد نفسه- على أساس تلك المقدمات فسوف يزول الاعتراض والشك وتتولد المحبة وتنمو نمواً مستمراً، وننبهر حينما نرى ظاهر تدبيره فضلاً عن خفي تدبيره ان كُشف لنا. وقد جاء في الحكمة: ( لو علمتم كيف يدبّر الله أموركم لذابت قلوبكم من محبته ).


     ان سلسة الجهل قد تعود لأمرين هامين وهما:


    الأول: عمق التدبير وسياسة التسيير الإلهي.


  والثاني: وهو الأهم، يعود لعدم اهتمامنا بالتدبيرات الالهية والذي يستدعي عدم الالتفات لهذا الامر المهم، الذي من خلاله نستطيع ان نقف على حقائق كثيرة تدفع من خلالها الإشكالات وتضمحل لدينا الكثير من التساؤلات.


     والبدء في ذلك يكون بخطوتين فقط:


    الأولى: ان كل ما يفعله الله لي هو فقط من اجل مصلحتي ومصلحتي انا فقط... مع غض النظر عن مصلحة الاخرين؛ لان هذا باب واسع جداً قد يتيه فيه الانسان.
الثانية: محاولة -بل الإصرار- على رؤية تلك المصلحة او الفائدة التي حواها الفعل الإلهي لي.


   حينها سيزول الجهل وستجد أجوبتك التي تبحث عنها وفق النظام المعرفي المطبق في عالم الدنيا. وقد قيل قديماً: ( لو علِم العبد مقاصد الاقدار لبكى من سوء ظنه بربه ).

 -والحمد لله وحده-


منتظر الخفاجي



جديد قسم : مقالات

إرسال تعليق