ومضات تربوية

الصوم لله تعالى
   المتبادر الى الذهن أن الصوم هو تكليف إلهي فُرض على العباد، وينبغي أداءه. وهو أحد فروع الدين، أو ركن من أركان الإسلام، وبما قرره الفقهاء، أن فعل الصيام على صورته الشرعية وبشروطه، مبرئ لذمة العبد ومُخرِج من تبعاته، وهذا كله حق لا غبار عليه.
   لكن ربما تكون هنالك زاوية نظر أخرى تُسلِط الضوء على الصيام من أعلاه، وهي الزاوية المستفادة من رواية الرسول الأعظم عن ربه جل جلاله والتي رواها السنة والشيعة، حيث يقول سبحانه:(كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به -أُجزى به-) [وسائل الشيعة ج 10 ص 403- البخاري ج 2 - 226 ]، فإن نظرنا من هذه الزاوية فُتح لنا فهماً جديداً للصوم، وارتقينا به الى ما هو أدق من الفهم السابق وأعمق.
   وذلك بما أن الصوم لله على خلاف بقية العبادات، يصبح حينئذٍ ليس تكليفاً ينبغي الخروج من عهدته، بل هو تقدمة يقدمها العبد لمولاه.
   عندما يخبرنا ربنا متفضلاً أن هذا العمل له وليس لنا، وليس كبقية الأعمال تسجل لنا حسنات، يتوقع منا -لو جاز التعبير- أن نقبل عليه بصدور شَرِحة وقلوب فَرِحة، أن نقدم له هذه التقدمة بأكمل صوره وأتمها، بل نبحث عن مكامن مرضاته في زوايا ذلك الفعل.
   عندما يبين لنا الحق سبحانه العمل الذي يريده له وليس لغيره -لأي علة كانت- ينبغي علينا أن نعي أن هذا باب فُتِح لنا لكي نقدم للمنعم والمتفضل الذي ما انقطعت أفضاله، ما نريد ونتمنى أن نقدمه له، وكأن سبحانه يقول: عبدي إن أحببت أن تقدم لي شيئاً فعليك بالصيام.
   وعليه وجب على العاقل المحب المبصر لأيادي ربه، عندما يقدم هذه التقدمة ويرفعها الى حضرة الحق سبحانه، أن يقدمها في أعلى مراتب كمالها وجمالها، وأن يصونها من كل شائبة وعيب، كي تكون جديرة بأن ترفع لحضرة النقاء، فإن من يستقبلها هو الكمال المطلق سبحانه.
   فوجب على من يرى صومه من هذه الزاوية، أن يحقق أعلى مراتب الصوم لكي يتقبلها الله تبارك وتعالى بأعلى مراتب القبول، ويُكّون العبد من خلالها صورته الجديدة التي يرسمها لنفسه في الملأ الأعلى، ويمحو الصورة السابقة.
   وللارتقاء بمرتبة الصوم والتسامي به الى من يستحق أن يُرفع له هذا العمل، يكون عبر النظر العملي فيما بيّنه لنا سبحانه عن طريق كتبه ورسله وأولياءه.
   فقد بين الرسول الأعظم (ص) بعض حدود الصوم في وصيته، إذ قال: (إذا صمت فانوِ بصومك، كف النفس عن الشهوات، وقطع الهمة عن خطرات الشيطان، وانزل نفسك منزلة المرضى لا تشته طعاماً ولا شراباً، وتوقع في كل لحظة شفاك من مرض الذنوب، وطهّر باطنك من كل كدر وغفلة وظلمة تقطعك عن معنى الإخلاص لوجه الله تعالى) [بحار الانوار ج93 ص 254]. وهذا الذي بينه الرسول الأكرم لا أظنه الصوم الذين يفعله أغلبنا!.
   وكذلك بين أمير المؤمنين (ع) مرتبة أخرى من مراتب الصوم، إذ يقول: (صوم الجسد الإمساك عن الأغذية بإرادة واختيار خوفاً من العقاب وطمع ورغبة في الثواب والأجر، صوم النفس إمساك الحواس الخمس عن سائر المآثم، وخلو القلب عن جميع أسباب الشر) [ميزان الحكمة ج5-ص 471]. والذي نفهمه من هذه المرتبة، هو تخلية القلب وتنزيهه عن مسببات الشر والفساد، وهي الصفات الدانية والأخلاق الرذيلة، ثم السيطرة على منافذ القلب وهي الحواس الخمس، لكيلا يدخل الى القلب ما يزرع فيه الشر والفساد.
   وقد ورد أيضاً عنه (ع): (صيام القلب عن الفكر في الآثام، أفضل من صيام البطن عن الطعام)[موسوعة احاديث اهل البيت ج 8 ص 519] أي إن صيام العقل عن الأفكار السيئة والخواطر الفاسدة، أعلى مرتبة من الصيام عن الأكل، لمن أراد الرقي بصومه.
   ونستفيد من هذه الآثار، أن الصوم ليس مرتبة واحدة، وإنما مراتب متعددة متدرجة، ولكل جهة من جهات الانسان صومها الخاص بها. ومن أراد أن يقدم تقدمة الى ربه، وجب عليه أن يتحرى أنقاها واعلاها وأكملها، وإلا فقد بخل على ربٍ كريم.
   يقول عز وجلّ في الحدث القدسي: (من لم تصم جوارحه عن محارمي فلا حاجة لي في أن يدع طعامه وشرابه من أجلي) [ميزان الحكمة ج 5 ص 315].        

وله المنة



جديد قسم : ومضات تربوية

إرسال تعليق