قواعد الايمان من بين يدي القرآن
قاعدة التمييز

قاعدة التمييز

      المدرك: قوله تعالى: { مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ۗ } [آل عمران : ١٧٩].


     المفهوم: لو إن الإنسان اهتم بجانب الإيمان ودقق في أسسه وهو الكتاب العزيز والسنة الشريفة لتبينت له الثوابت التي أرساها الحق تعالى في نظامه التكويني التشريعي، وعرف من خلالها طرق التعامل مع الحق تعالى في ما يريده وما لا يريده، ولتقدم الإنسان خطوة على الصراط المستقيم. فالمفتاح لذلك هو زيادة الاهتمام بهذا الجانب. وفي الواقع ليس من جانب يستحقق اهتمام الإنسان أكثر من الجانب الإيماني الذي وجِد الإنسان وكُوِّن وصُوِّر من اجله. والإنسان إذا أراد ذلك أي تمتين العلاقة الحقيقية مع الله تعالى ومعرفة قواعد وأسس التعامل معه فسوف يفتح له ذلك ويبين طرق التعامل معه، فليست المسألة مستعصية حين التأسيس ثم الله لا يضيع عباده (( هيهات أنت أكرم من أن تضيع من ربيته )) [مفاتيح الجنان دعء كميل] بل إن معرفة القواعد والثوابت المركوزة في النظام الإلهي متوفرة لكل من أراد معرفتها والعمل بها لأجل زيادة إيمانه بالله تعالى.


    ومن هذه القواعد والتي ما انفكت تلازم البشرية منذ أول نشوئِها إلى يوم القيامة، هي قاعدة التمييز، وهي قاعدة تصاعدية بتصاعد الإنسان وتنازلية بنزوله من أجل صعوده وتساميه.

    والتمييز لغة كما ذكر أرباب اللغة هو الفصل بين المتشابهات. وقد وردت نصوص قرآنية كثيرة وأحاديث عن أهل البيت ( عليهم السلام ) تؤكد وتثبّت هذا الأمر وتبين إنه من السنن الإلهية والتي لها من الدور الكبير في إيصال البشر إلى ما يريده الحق تعالى. وقد ورد في الكتاب العزيز ألفاظ متعددة كلها تصب في التمييز تتبعاً وهي البلاء والاختبار والفتنة. وكما هو محقق عند أهل اللغة إن البلاء هو الاختبار أو هو مقدمة الاختبار والفتنة في أبرز معانيها هي الاختبار، قال تعالى: { وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ۚ } [طه : ٤٠] أي اختبرناك، وقال تعالى: { وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ } [الأنبياء : ٣٥] أي اختباراً. ونتيجة الاختبار هو التمييز فيتميز الإنسان من خلال الاختبار بميوله إلى أحد طرفيه.

    والظاهر من مدرك القاعدة { مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ ..... } أن مسألة التمييز مسألة ثابتة لا بديل عنها ولا محيل، بل هو الأسلوب الأمثل لإظهار ما في داخل الإنسان إلى ارض الفعل وتعميق الركائز الإيمانية وإزالة الركائز النفسية. فالبلاء والاختبار وبالتالي التمييز هو من ضمن العطاء الإلهي للإنسان وهو باب من أبواب التعامل الغيبي لأن الإنسان عندما يدرك إن هذا البلاء هو اختبار من الحق تعالى والحق ينتظر النتيجة للرد على هذا الفعل الإلهي سيكون هنالك وجه تعامل من الغيب وان كان لا يرى اليد التي أرسلت هذا البلاء لكنه يدرك أن ربه جلّ شأنه أرسل إليه هذا البلاء لأجل أن يزيد في درجاته بتعامله الصحيح مع هذا النازل.

    فالظاهر من المدرك إن من القوانين الإلهية التي التزم بها الحق تعالى وألزم بها عباده هو ألا يترك المؤمنين وكل من ادعى الإيمان على حالهم الذي هم عليه - وربما هم فرحون به! - حتى يبين هذا الحال مصالحه من مفاسده وهل ما يعتقدون من إيمانهم هو صحيح؟ وله وقع في ارض الصعوبات؟ أم هو إيمان ذهني مجرد من الانعقاد القلبي؟ فليس من سبيل لمعرفة ذلك إلا بالاختبار، وإلا لو ترك الله العباد أو المؤمنين على حالهم وما يعتقدونه فسوف يضلون ضلالاً بعيدا، إذ ليس هنالك من منبه ومذكر ينبههم إلى نقصهم في إيمانهم أو توهمهم في ما يعتقدون ويظنون بأنفسهم، لذلك رأينا وشاهدنا كثيراً ممن يتوهم الإيمان ويتوهم أنه في مَصَافّ المتقين لكن عند نزول البلاء لا يدركه إيمانه ولا ينفعه تقاه فيتصرف على عكس سجية المؤمن من الجزع والسخط  والاعتراض، فيدرك من ذلك البلاء أن ظنه بنفسه هو محض وهم، لذلك بين الله تعالى إن سبب هذا البلاء هو لأجل تمييز الفساد من الصلاح والخبيث من الطيب (( حتى يَمِيز الخبيث من الطيب )) فبين لنا كذلك أن ليس كل من ادعى أو توهم الإيمان فهو مؤمن بل هنالك من يتوهم الإيمان وهو في واقعه خبيث!.

    التطبيق: يمكن ان يُسأل التمييز لمن؟.

    نقول: ليس لله قطعاً لأنه تعالى بكل شيء عليم وليس بالعلم العام إنما بعلم الإحاطة، فهو محيط علماً ليس بالشيء فقط بل محيط بكل جزئية من جزئيات الشيء، ولا يعزب عنه معرفة الطيب من الخبيث فلا يحتاج لا إلى تمييز ولا اختبار ولا غيرها. وإنما للتمييز جهتان:

    الأولى: هم العباد. فيميز الله تعالى العباد للعباد لكي يعرفوهم فلا يتبعوهم بكل صيحة أو يأخذوا بنصائحهم ويغتروا بهم. وكذلك من تبين له نقص مؤمن وجب عليه النصح فربما أخوه لا يرى هذه النقص.

    الثاني: هو إن التمييز لأجل المبتلى وهذا هو الوجه الأساسي من التمييز. فالمفروض إن التمييز يبين للمؤمن الذي وقع عليه الابتلاء محاسنه ومفاسده وحقائقه ودعاواه فيعمد إلى النقص بسده، ويعمد إلى الكمال بشكره، فالفائدة الكبرى من هذا التمييز هي للمؤمن.

     واعلم: إن هذا النظام ليس خاصاً بالمؤمنين بل بالفاسقين وغيرهم بطريق أولى إنما ذكرت الآية المؤمنين لتبين أن المؤمنين ليسوا بمنأى عن التمييز؛ لأنهم مؤمنون بل هنالك درجات للإيمان لا ينالها المؤمنون إلا بعد استقرار درجة الإيمان السابقة قال تعالى: { وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۗ } [الأنعام : ١٦٥].

     وكذلك فان مسألة التمييز والاختبار لا تقتصر على مستويات معينة إنما هي تصاعدية مع تصاعد الإنسان وتساميه لذلك نرى أعلى مستويات البشرية وهم الأنبياء مروا باختبارات كثيرة وتميز لهم حالهم في مستويات ما فوق عصمتهم ومن ذلك ما ذكر الكتاب العزيز من بعض التفاتات سليمان النبي ( عليه السلام ) قوله :{ قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۚ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ } [النمل : ٤٠] فتتوضح لنا هنا صورة تعامل النبي مع العطاء الإلهي وقوة نباهته للاختبارات الإلهية بحيث لم يؤثر الفرح بالعطاء على رؤية الابتلاء ولم يحجبه الحضور المادي وهو العرش عن الحضور المعنوي وهو الإرادة الإلهية. فينظرون إلى كل منع أو عطاء بل الى كل فعل ألهى ينظرون السبب منه والغاية فتكون ردود أفعالهم على أساس الغاية من ذلك الفعل لذلك نراهم متصاعدين ومتمكنين في سلم الإيمان، فأسقطوا الأسباب ونظروا إلى مسبب الأسباب فلم يشكر سليمان الذي عنده علم من الكتاب إنما شكر الله سبحانه.

     وان للتمييز والاختبار المساحة الكبرى في حياة الإنسان وان غفل أو تغافل عن ذلك يقول الإمام الصادق ( عليه السلام ): (( ما من قبض ولا بسط إلا ولله فيه المن والابتلاء )) [ميزان الحكمة / باب الابتلاء حديث ١٨٨٥] أي إن كل ما يمر على الإنسان فيه ابتلاء واختبار من الله تعالى وذلك لان كل ما يسببه الله تعالى للإنسان من عطاء أو منع أو اخذ فان إزاءه فعل من الإنسان وهو إما الشكر أو الاستغفار أو التفكر أو التوكل فيما يعجز الإنسان عنه أو غيره من ردود الأفعال الإيمانية.

     يبقى هناك إشكال ربما يشكل به الفرد وهو: إن الله تعالى اوجب على الإنسان واجبات وحرم عليه محرمات وجعل الجنة لمن التزم أمره، فمالنا والابتلاء والتمييز؟.

     نقول: إن الله تعالى عندما خلق الإنسان خلقه لأجل غاية كبرى والمتمثلة بالخلافة قال سبحانه: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ } [البقرة : ٣٠] فالغاية هي الخلافة وأما الجنة فهي عطاء منه سبحانه إنما المراد الإلهي هو أن يتصف الإنسان بالصفات العليا ويتخلق بالأخلاق التي تؤهله لكي يكون خليفة لمنتهى الأخلاق وغاية كمال الصفات سبحانه وتعالى، وقد أوجب الله تعالى للإنسان مقدمات على أساس تلك الغاية وألزم صفاته بتقديم ما هو الأصلح لهذا الخليفة ومن ذلك نظام الابتلاء. وحتى على صعيد نيل الجنان فان الجنان درجات رفيعة { رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ } [غافر : ١٥]، وان مزالق الدنيا وغواية النفس ووسواس الشيطان لا تبقي لصاحب الإيمان الداني حظ في نيلها.


     ومن المعلوم إن التمييز هو لأجل إظهار ما في الصدور إلى ارض الواقع قال الإمام علي ( عليه السلام ) في قوله تعالى : { أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ } [الأنفال : ٢٨] قال: (( ومعنى ذلك انه سبحانه يختبر عباده بالأموال والأولاد ليتبين الساخط لرزقه والراضي بقسمه وان كان سبحانه اعلم بهم من أنفسهم ولكن لتظهر الأفعال التي بها يستحقون الثواب والعقاب )) [ميزان الحكمة / باب الابتلاء حديث ١٨٩٠] فيكون الابتلاء هو الداعي لظهور قوة الإيمان وضعفه من خلال الأفعال وان ظهور ما في مكمن الإنسان إلى ارض الفعل يعطي القابلية على التغيير والرؤية الواضحة لما في داخله فيقدر من خلالها على التثبيت لما هو صالح في نفسه والتغيير لما هو فاسد. قال الإمام الصادق ( عليه السلام ): (( البلاء زين المؤمن وكرامة لمن عَقِلَ لان في مباشرته الصبر عليه، والثبات عنده تصحيح نسبة الإيمان)) [ميزان الحكمة / باب الابتلاء حديث ١٩٢٨]. (( وكرامة لمن عقل )) لأنه يحرك الإنسان من بعد السكون ويدفع للمسير المؤدي إلى زيادة نسبة الإيمان العاصمة صاحبها من الوقوع في مهالك الأخطاء في مستواه.


    أما عروض التمييز للإنسان فانه يشمل كل جوانبه سواء الفعلية أو الاعتقادية ومنه الصعوبات بأداء الطاعة المؤدية إلى تقوية الإرادة العبادية وتضعيف الإرادة النفسية، وكذلك تقريب الحظوظ الدنيوية والملذات النفسية من الإنسان وسهولة نوالها قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ ۚ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [المائدة : ٩٤] وقوله: { إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ ......} [البقرة : ٢٤٩] وهم في اشد الرغبة النفسية لذلك.

    وكذا التمييز ألاعتقادي حيث يبتلي الله ما في صدر الإنسان من الاعتقادات والأفكار حتى يبين صلاح هذه الأفكار أو فسادها المؤدي إلى التمسك بصالحها والتجرد عن فاسدها.

     والمحصل من ذلك: هو الالتفات إلى نظام التمييز وأخذه بعين الجد والنظر إلى أطرافه والتعامل الصحيح مع مقدماته من البلاء والفتنة، وان أول خطوة صحيحة للالتفات هو أن لا تنسب الفعل إلى الأسباب الطبيعية فتغفل عن الاختبار وإنما وراءها إرادة إلهية تتوقع منك ردة الفعل الأصلح في الاختبار، والوقوف على ما يُظهره لك التمييز ثم العمل على إزالة الفاسد مما ظهر. وإلا فان الاختبار والتمييز مستمر وكلما ارتقى المرء كان الاختبار أدق وكان الجزاء أكبر وأعظم، قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ): (( كلما كانت البلوى والاختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل الا ترون إن الله سبحانه اختبر من لدن آدم صلوات الله عليه إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام الذي جعله الله للناس قياماً...؟ ولكن الله يختبر عباده بأنواع الشدائد ويتعبدهم بأنواع المَجاهد ويبتليهم بضروب المكاره إخراجا للتكبر من قلوبهم وإسكانا للتذلل في نفوسهم، وجعل ذلك أبواباً فُتّحاً إلى فضله وأسباباً ذُللاً لعفوه )) [ميزان الحكمة / باب الابتلاء حديث ١٨٩٥].








جديد قسم : قواعد الايمان من بين يدي القرآن

إرسال تعليق