قاعدة البِر |
قاعدة البِر
المدرك:
قوله تعالى: { لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ } [آل عمران : ٩٢].
المفهوم:
البِرُ: قيل في معناه هو الصلاح وقيل هو الخير وقيل الطاعة وقيل الاحسان، وقيل سعة
الخير. وكلها تندرج ضمناً في الخير وسعته.
والفهم
الأول من مدرك القاعدة هو أن لا حصول ولا وصول للوسع في الخير والنعمة الإلهية المادية
أو المعنوية حتى يكون إنفاقكم مما تعلقت به قلوبكم وتمسكت به نفوسكم. نعم الإنفاق العام
يعطي لصاحبه الثواب لكنه لا يوصل إلى البر أو التحقق بدرجة أهله.
فالمستفاد
من هذه القاعدة الإيمانية إن الحق تعالى قيّد فتح باب التوسع في الخير والطاعة التي
هي من الخير بالإنفاق من المتعلقات المادية والمعنوية في نفس الإنسان وان اختلف الناس
في محبوباتهم إنما القيد هو كونها من محبوبات الإنسان سواء أكانت ذات قيمة في نظر العقلاء
أم ليست كذلك بل كل ما أحبه الإنسان. وجعل دخول البر والتدرج بمدارجه إلى بلوغ منزلة
الأبرار نتيجة حتمية لذلك الإنفاق، بل إذا قلنا إن اسمه تعالى البَرّ هو مصدر صفة البِرّ
فيكون لن تنالوا بر الله تعالى حتى تنفقوا لما تحبون.
وبما إن
الآية مطلقة من جهة المقدمة وهي الإنفاق وعدم تقيدها بنوع أو كم أو كيفٍ فتكون غير
مقتصرة على الإنفاق المالي، وكذلك يُستفاد من هذا الإطلاق إطلاق البر وتعدد مراتبه،
وبه يكون للإنفاق مراتب ومفردات لم يحدها الحق بحد قال الرسول الأعظم ) صلى الله عليه واله وسلم ): (( فوق كل ذي برٍ برٌ حتى يقتل الرجل في سبيل
الله فليس فوقه بر )) [ميزان الحكمة / باب البر / حديث ١٦٧٦]. فيشمل الإنفاق كل ما له قابلية
الإنفاق سواء كان مادياً محسوساً أو معنوياً مدركاً.
التطبيق:
إن من خصائص هذه القاعدة أنها تجريدية من جهة التعلق بحطام الدنيا والتسلسل بسلسلة
تنزيلها إلى مستويات الهلكة في بحر زخرفها وتوصيلية من جهة التعلق بالأسباب العليا
الجاذبة للإنسان إلى مراتب الجنان قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين : ١٨] وهذه العليين حاصلة من إنفاقهم
من معالي متعلقاتهم وممتلكاتهم الملزمة للنظام الإلهي القلبي بنزول معالي العطايا الإلهي،
المتمثلة بعليين. ومن المفترض إن المستويات الدنيا من الإنفاق وهي إنفاق دواني الأموال
تكون مقدمة لإدراك وتذوق الإنفاق الأعلى الذي قيّد الحق نوال مرتبة الأبرار به والبر
الإلهي من جهته والتوسع في الخير على المنفق.
والإنفاق
يكون على ضروب، كلها مطلوبة كلٌ بحسب ما رزقه من الأشياء القابلة للإنفاق والمفتوح
أمامها باب القبول الإلهي، ومنها الإنفاق من جهة المال والذي يقتصر عليه فهم المؤمن
الساذج ويتوقف عنده ما يؤدي إلى توقف تصاعده في مدارج السير والتقرب إلى البر الرحيم
والاقتباس من نور فضله وهي القدم الأولى لمن أتاه بحقه وحقوقه قال تعالى:
{ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ .....} [البقرة : ١٧٧] فقد أعطى
الحق في هذه الآية مبدأ البر ومقدمات تحققه إلى نتيجته الفعلية والتي سببها البر ألاعتقادي
من الإيمان بالله وما انزل وأرسل ونتيجته التي ينبغي أن يصل إليها من كان قد أحسن المقدمات
اعتقاداً وجزماً وهي الإنفاق مما تحبون. وسواء أخذنا سبب النزول وهو اختلاف اليهود
والنصارى في قبلة المشرق والمغرب أو تحررنا من هذا القيد ووسعنا ذلك وقلنا إن المعنى
من التوجه نحو المشرق والمغرب هي العبادة الواحدة، فيكون بيانه تعالى إن البر الذي
تسعون وراءه أو الذي أراده الحق تعالى لكم بما أودع في مكامن استعدادكم لا يتحقق بتوجه
وجوهكم نحو جهات الأرض! بل يتأتى من المقدمات الاعتقادية والنتائج الفعلية لهذه المقدمات
ثم يكون العطاء الحق من عنده تعالى ذكره وتقدس أمره. فالبر كما بينت الآية هو الإيمان
بما ذُكر ثم الإنفاق من جنس المال بقيد على حبه، وحبه له ثلاث معان.
المعنى الأول: (على حبه): أي أن يكون المال محبوباً من قِبل الإنسان
وليس مال مزهود فيه لقلته أو حقارته أو إدبار النفس عنه، إنما أن يكون لهذا المال عُلقة
في نفس الإنسان من الإرادة والمحبة له لمكانته من قلبه. فلا تحقق على الحقيقة للإنفاق
الموصل إلى البر بغير ذلك. وإن كان هكذا، فيكون وهو المراد الإلهي انه بإنفاقه لما
يحب فضّلَ جهة الإنفاق وهي الجهة الإلهية على المنفق وهو المال.
المعنى
الثاني: أن يكون «على حبه»: كما نطقت بذلك الأخبار بمعنى
على احتياجه لذلك المال فهو محتاج إلى ذلك المال وليس بفائضٍ عنه، والاحتياج هو إرادة
والحب فرعها، فينفقه وهو محتاج إليه فيؤثر جناب الحق على جهة نفسه واحتياجها سواء كان
توهيمياً أو حقيقياً ويقدم أمر الحق على أمر نفسه.
المعنى
الثالث: أن يكون «على حبه»: على حب الله سبحانه وتعالى فالهاء
تعود على الله تعالى. ويكون سبب الإنفاق هو حب الله تعالى المتمكن من قلب المنفق. واعلم:
إن هذا الداعي للإنفاق هو أعلى وأكمل أنواع الإنفاق، فيكون حب الله أعلى من حبه لنفسه،
ولا يعني هذا عدم حب الإنسان للمال بل حب الله تعالى أكبر في صدره من حبه للمال. عندها
يكون الإنفاق، وإلا لو كان الإنسان يحب المال أكثر من حبه لله أو للمنزلة التي يرجوها
فمن المستحيل أن ينفقه على جهة هي اقل استحقاقاً في نظره، لذلك كانت الاعتقاديات مقدمة
للإنفاق، فالحب الإلهي من ضمن القلبيات لا الفعليات فتمكنه من قلب الإنسان يولد إرادة
دافعة لتحقيق الأفعال والتي أقربها هو الإنفاق في سبيله.
والضرب الثاني من الإنفاق هو الإنفاق المعنوي، وقوامه الأعلى العلم
والمعرفة بمراتبها الأولى. وذلك بنشره وتعليمه لطالبيه. بما في ذلك العلوم التي تحوي
فوائد دنيوية أو أخروية أدت إلى نتائج مادية أو معنوية. على أن تكون نية التعليم أو
التثقيف بأي صورة هي النظرة إلى الجهة الإلهية دونما الجهات الأخرى؛ لان الإنفاق الحق
ما كان لله تعالى وهو المؤثر في الإرادة الإلهية والمنفعل به النظام العام. وكلما كان
العلم اعز في نفوس أهله وأقرب إلى قلوبهم كان الإنفاق منه أكرم في نظر الحق تعالى وبالتالي
فيكون بلوغ البر مقيداً مستوياته بمستوى الإنفاق من جهة عمقه في النفوس والصدور. وأما
إنفاق العلم الذي زهد به صاحبه ولا يجد حاجة إليه فهو من أدني مراتب الإنفاق وانه لا
يدخل إلى البر بقيد القاعدة.
ومن ضروب
الإنفاق مسامحة الآخرين ومغفرة أخطاءهم فان الإنسان يحب أن يتجاوز الحق والخلق عن أخطائه
ويجد أحياناً صعوبة في غفران أخطاء الآخرين والتجاوز عنهم لصعوبة نتائج هذه الصفة على
نفسه. فالإنفاق عن هذه الصفات بمغفرة أخطاء غيره يُعد من البر. وكذلك مما يحبه الإنسان
ويبخل في إنفاقه هو الراحة الدنيوية واللذة الجسمانية والاستقرار والبقاء في حالة واحدة
خوفاً من ضياعها. فيقدم الإنسان راحتهُ إنفاقاً في سبيل الله ويغير حاله طمعاً بما
هو أوسع خيراً من ذلك.
وغير ذلك
كثير بل كل فعل يقرب صاحبه من الحق تعالى هو بر ولا يمكن التقرب إليه إلا بالتخلي عما
سواه.
جزاكم الله تعالى كل خير وبركة
ردحذف