فيوضات من الباطن
نكران الذات وأثره في الكمال


الباب الحادي عشر
نكران الذات وأثره في الكمال

   إن النفس فـي كـل أفعالها وصفاتها تبتغي إثبات وجودها الوهمي ، ومـن ثـم كمال ذلك الوجود حتى يطغى على الوجود الحقيقي للإنسان . ويبرز ذلك من خلال تفعيل صفاتها الدنيا المتمثلة بالرذائل، والتي من خلالها يكون التكامل النفسي العكسي . وهذه الصفات النفسية أو الرذائل لها الدور الرئيس بربط الإنسان بالعالم السفلي وجذبه نحو الدنو .

   ومن أصول هذه الرذائل وأبرزها بل ربما كل الرذائل ترجع إليها هي حب الذات . وحب الذات هو حب أو إرادة بقاء الاستقلالية النفسية ، وهو على مستويين من الواقعية :

    المستوى الأول : هو حب بقاء الذات بما هي عليه من النقص والتدني أي بالنظر إلى الصفات.

   المستوى الثاني : هو حب بقاء الذات بالاستقلالية الوهمية مع غض النظر عن الأفعال والصفات ، فهو لأجل البقاء الذاتي . نعم له أساس في جهات عليا لكن كلامنا في ما دون ذلك ، فكلا المستويين من كبائر النقائص .

   وهذه الرذيلة هي العامل الأكبر للبقاء النفسي أو بقاء الإنسان في المستوى النفسي . لأن من الدوافع للعمل هو الحب وهو أقوى دوافع الإرادة ، والإرادة مستصحبة له حتى لو كان بالمقدار القليل.

   هذا ، وإن أكثر أفعال الإنسان لو تتبعها الفرد لوجدها ترجع إلى حب الذات رجوعاً مباشراً أو غير مباشر وحتى بعض أفعاله التي يراها خيّرة، فكره الذم مثلاً يعود إلى العُجب الذي يرجع إلى حب الذات ، هذا من جهة الرذيلة ، أما من جهة الفضيلة فإن بعض ما يظنه الفرد من الفضائل يعود في واقعه إلى رذيلة أو مرض باطني ويرجع إلى حب الذات ، ومثال ذلك : الاحترام فإنه من الآداب المطلوبة في الظاهر والباطن ، لكنا لو أمعنا النظر ببعضه وليس كله لوجدنا أن البعض يحترم الناس لأجل أن يحترمه الناس ، وإن إرادة احترام الناس نابع من حب الجاه وحب الجاه نابع من حب الظهور وحب الظهور نابع من حب الشهرة وحب الشهرة نابع من حب الذات ، وبالتالي رجع هذا الفعل إلى رذيلة .

   وتحقق هذه الرذيلة لدى الفرد وخاصة طالب الكمال هي بشرى بالموت الحقيقي ، ويظهر ذلك من عدة جوانب :

   الأول : إن هذه الرذيلة ومـا تحـتويه من رذائل ترفع عن الإنسان الإحساس بـالتقصير المسـتلزم للحيـاة والسير في طريق التكامل، والمريد إذا أحس للحظة بعدم التقصير فسوف يتوقف في خط تكامـله , لانعدام الدافع .

   ثانيا : إن وجود النفس وحبها , واعني بالحب الإرادة الدافعة للعمل النفسي , توجب الاحتجاب عن الحق سبحانه , ومن ثمَّ التضاد .

   ثالثاً : إن الكمال كما نعرف خطان , الأول يوصل لله سبحانه ، والثاني للنفس وببقاء هذا الواعز وهو نفسي قطعا فسيؤدي إلى التحول من التسامي المطلوب إلى التسافل إذ ليس ثمة طالب من الإنسان غير الحـق والنفس .

   وكذلك تحجب هذه الرذيلة الإنسان عن إدراك الحقائق لان الوصول للحقائق معنـاه إزالة الـوهم الملازم للنفس .

   ومن يكشف له الحق يرى إن أكثر الأفعال هي من اجل بقاء النفس واعني بالبقاء هو البقـاء فـي العالم الوهمي , نعم لا يكـون محاسباً عليها إلا بعد كشف الغطاء عنها .

   ويجب اجتياز هذه الرذيلة فـي بدايـة المسـير الخـاص لأنها موجودة في كل الأفعال الصادرة من الإنسان في زمن الغفلة ، فليس من كمال خاص مع وجود هذه الرذيلة .

   وبتجاوز هذه الرذيلة يكون الخلاص من أكثر الأمراض الباطنية ، لكن التجاوز يكون بالعلاج أو التجرد الجذري وليس بالعلاجات السطحية كالتي وضعها علماء الأخلاق والتي كانت من أسباب اختلافهم بزوال الرذيلة وعدمه , نعم الصواب هو الزوال إن كان من الأصل وعدمه إن كـان من الفرع ، لان إزالة الفعل مع وجود الإرادة للفعل لا يعتبر قطعاً للفعـل , وهذا هو العلاج الذي اتخذه الأخلاقيون , والذي باء بالفشل , وهو ليس إلا إزالة مؤقتة لا تجدي نفعاً معتدا به في كمال لا متناهي , نعم قد يزيل طبقة من الرذيلة أو يـوصل إلى  مراحل لمعرفة العلاج الأساسي لذلك , أي يكون استعداداً وطلباً فعلياً لأخذ العلاج القطعي .

   أما علاجها التدريجي فهو بنكران الذات ، والذي يجب أن يلازم المريد على طول الخط وإن بلغ أعلى المقامات . ونكران الذات هو أن لا يرى الإنسان لنفسه أهمية إزاء أي موجود ، وغايته أن لا يرى نفسه أصلاً ، وله تدرجات .

   وهو معتمـد عـلى الاطلاع الجزئي أو النظري لا الفعـلي عـلى النفس . ويكون العمل في المرحلـة الأولى منه وهو :

   النكران الفعلي : وهو عدم أهمية الفعل الصادر من الفرد والذي ينتج عن سببين وهما :

   الأول : رؤية صغر الفعل وتفاهته بالنظر إلى واقعه وأثره .

   والثاني : رؤية عظمة المستحق للفعل ، فيرى من عظمته ما تسقط أمامها أهمية جميع الأفعال .

   المرحلة الثانية : النكران الصفاتي . به يرى الفرد ما أتصف به من صفات كالعلم والحلم والصبر والتواضع وغيرها لا أهمية لها إنما هي صغيرة ودون الاعتبار .

   ويتحقق من النكران الفعلي أمران :

   الأول : التأهل والاستحقاق لدخول المرحلة الثانية وهي النكران الصفاتي، لرجوع كل فعل إلى صفته الصادر منها .

   الثاني : فتحُ باب لمعرفة الفعل الإلهي على الحقيقة ، وهو من أول أبواب التوحيد فعند إزالة الفعـل الـوهمي يكـون جلاء الفعل الحقيقي , فمنهم من يدخل من هذا الباب إلى مقام التوحيد , ومنهم من يستمر في طريقه دون الالتفات إلى ذلك .

   وكذلك  يتحقق من النكران الصفاتي أمران هما :

   الأول : إزالة حجـاب رؤية الصفة الموجبة للصفاء القلبي المؤدي إلى تقوية  الإرادة للمسير في الكمال .

   الثاني : فتح باب معرفة الصفة الإلهية بالمعارف الجزئية . وكذلك هو تهيئة إلى نكران الذات الإنسانية الاستقلالية .

   هذا ، وإن لنكران الذات مراتب تصاعدية يتسامى بها الفرد حتى فنائها وأهمها ثلاث :

   المرتبة الأولى : أن يرى الفرد لنفسه شيئاً من الاعتبار والأهمية ، على الصعيد الفعلي أو ألصفاتي أو الذاتي .

   المرتبة الثانية : أن لا يرى الفرد لنفسه أي وزن أو أهمية إنما كل ما يراه اعتبارات وهمية ليس لها قيمة حقيقية .

   المرتبة الثالثة : أن لا يرى نفسه بالكلية ، فينفي الحدود الصورية  والواهبة للوجود الاستقلالي . ولا يتوقف عند هذه المراتب بل عند الرجوع يلازمه النكران حسب مرتبته .

   وأما المرآة التي تكون داعية لنكران الذات والتي يرى الإنسان من خلالها حقيقة أفعاله وصفاته ودنوّها ، فهي ثلاث :

   الأولى : تكون بمقارنة أفعاله وصفاته بأفعال وصفات غيره من الناس ممن هم أعلى صفاتً وأكثر فعلاً . فيرى حينئذٍ قيمة صفاته . لا أن يقارن الإنسان أفعاله بمن هو أدنى منه ، فإن ذلك يسبب له العجب وحب الذات ، نعم لو كانت الغاية هي التسافل فيستطيع أن يقيس نفسه بالأسفل ! إنما الغاية هي التكامل .

   الثانية : هو الحس الباطني ، الذي يقيّم الأفعال والصفات . فيرى حقيقة أفعاله وصفاته ومرتبتهما من خلال مرآة باطنه .

   الثالثة : يرى أفعاله وصفاته من خلال أفعال وصفات الحق تعالى ، ومن نظر إلى عظمة صفات الحق رأى حقارة صفاته وضئالتها ، وكذلك من بصر شيئاً من استحقاق الحق زهد بأفعاله . وهو على حسب معرفة الإنسان بنفسه ومعرفته بربه , وان كـان هنالك تلازم بين المعرفتين ، ولـو لا النفس لمـا عُرِف الحق كما قال الإمام علي ( عليه السلام: ( من عرف نفسه فقد عرف ربه ) فإذا وصل الإنسان إلى معرفـة النفس بالمعرفـة الحقـة وصـل إلى النكــران المطلوب .

   واعلم : أن نكران النفس أمام الخلق أكبر قدراً من نكرانها أمام الحق، ولكنه اقل منـه فـي المستوى الكمالي . والقياس بالخلق لا يوصل إلى معرفة الحق بـل لا يعطي الصفاء الموجب لقـوة الإرادة ، وهو كذلك يستلزم الدخول في الـوهم الأخلاقي الـذي يكـون في مقامات النفس السامية , ولكن المصب واحد .

   وهنالك نكران من نوع آخر وهو نكران النفس أمام العقل . فإن العقل إذا سمى وتخلص من التـأثير النفسـي رأى النفس على حقيقتها عندها سيستنكر أفعالها ويستقبح صفاتها ، ولكنه ذو مستوى بسيط بالنسبة للنكران أمام الحق سبحانه ، ولا تكون معرفة العقل للنفس تلـك المعرفـة الكاملـة لعـدم تجـاوز حـدود النفس .

   وأحياناً يكون النكـران لا بمعرفة النفس ، وإنما بالمعرفة الخارجية المؤدية إلى الحـكم عـلى النفس ومـا يصدر منها ، فيكون فيها إهمالاً للنفس المؤدي إلى النكـران وعدم الالتفات إليها , لكن هذا لا يتحقق إلا بالمقامات الأولى مـن عـالم النفس ، وثمرته اقل من الأول لأن المعرفة الأولى مؤديـة إلى الحياة وتقويتها ولولا الحياة لما كان المسير فليس من نكـران بـالمعنى المطلـوب دون معرفـة النفس , لان عدم معرفة النفس يعتـبر ممـراً لمسـير الأفكار الوهميـة وعلى قدرها يكون النكـران . والخطوة الأولى للمعرفة المؤدية للنكران هي مخالفة النفس في أبسط الأمور فمـن ذلـك سـتنتـج بعـض المعرفـة المُقدَّرة على قدر تلك المخالفة .

   وبمـا أن هـذه الرذيلـة تنتج من الجهل ببعض الصفات والأفعال النفسية والحـكم عليهـا بالإكبار ، فكذلك تنتج من القلب والعقل أي من بعض الصفـات العقليـة والقلبية والتي يراها الإنسان ذات شأنية , ومـن الصعـب أن تتيسـر لغـيره ! . وان كـل ذلـك يعود إلى الحالة الوهمية التي يعيشها الإنسان ، لان كل رذيلة هي ناتجة من وهم معين وإلا فمـن المحـال أن يكـون هنـاك رذائـل في عالم الحقائق . وينبغي أن تكون الإرادة لإزالة هذه الرذيلة إرادة جادة لان الإرادة الحقيقية لإزالة الرذيلة إزالة للرذيلة .

( والحمد لله وحده )





جديد قسم : فيوضات من الباطن

إرسال تعليق