فيوضات من الباطن
التفكّر


الباب الثلاثون
التفكّر

   إن العالَم الثـالث حسـب التقسيم الرباعي للعوالم الإلهية هو عالم الجبروت , وهو عالم العقول . يدخله طالب الكمال عند تجـاوز عـالم الملكـوت دون النقص فيه . وهـذا العـالم هـو أوسع من عالم الملكوت وأخص فليس من السهل دخوله ، لان التمحيص الحقيقي كائن في العالم الذي يسبقه ، فيحيا من حيَّ عن بينة ويهلك من هلك عن بينة .

   وعالم الجبروت هو عالم فكر ، به يدخل الإنسان إلى النظر الحقيقي الموصل إلى معرفة ما يُعرف من الحق . أي يخرج الإنسان من الإطار الفكري الوهمي ، فينتقل بعقله من سيطرة العالم الوهمي إلى العالم العقلي المجرد .

   وبما أن الإنسان في عالم النفس يكون عقله خاضع لذلك العالم ، فأستطيع القول أن عقل الإنسان الكائن في الوهم هو عقل وهمي ، إذ أن كل أفكاره ناتجة منه ، لا أن العقل هو وهمي ، وهذا يتضح للإنسان عند الدخول لمقام التفكر ,  فإن كـل تفكـر قبل الدخول في عالم الجبروت هو ليس بـالعقل إنما بالحجـاب العقلي , وهذا الحجاب من وضع النفس , لذلك لا نستبعد أن تكون أكثر الأفكار خاطئة , لان النفس تضع حجـاباً عـلى العقل تفصل به الإنسان عن عقله , فيكون تفكر الإنسان من خـلال هـذا الحجـاب والـذي يسـميه الأخلاقيون بـالقوة الوهميـة , وهـذا نـوع من أنواع السـيطرة النفسـية . والعقل في الظـاهر مقيـّد بقيـود كثيرة حطّت بطبيعتها من التفكر العقلي المطلوب , ولم توصل الإنسان إلى المعرفة المطلوبة حتى على مستوى الظاهر ، إنما أخـذت تُبعـد العقـل عن الحقائق العقلية فضلاً عن المسير العقـلي الصحـيح المـوصل إلى العـالم الـرابع فكان الضرر ظاهرياً قبل أن يكون باطنياً ، ومن هذه القيود :

   أولاً : قيـد المعتقـدات القديمـة والبدع الحديثة , فقد تمركزت بعض الأفكار الوهمية التي ما انزل الله بها من سلطان ، في عقل الإنسان , وبنى الإنسان عليها بعض الأسس الهامة في الكمـال العـام , واسـتخرج منهـا نتائج أصبحت قيـوداً أدق  لزوايـا العقل , فاحتلت جوانب عقلية كثيرة مما أدى إلى تعطيل هذه الجوانب وتوقفها من التطور العقلي .

   وكـذلك ابتـدع الإنسان قواعد ومعتقدات أوجبت استقرار العقل في مراحـل أو مسـتويات معينة مما أدت إلى تغيير مجرى التفكر العقـلي , ونقـل العقـل من حالة التعقل بالمعنى المعنوي إلى الاكتساب العقلي الجبري عند المواجهة لأي قضية معنوية .

   ثانيـاً : التـأويل ، وهـو من اشدّ المؤثرات على العقل البشري بصورة عامة لأن العقل إذا واجه أي مشكلة أو فكرة ولم يسـتطع حلها لجأ إلى التأويل وليس الارتقاء إليها , وهذا ما يُذهب بحقائق الأشياء ممـا يوجـب الابتعـاد عن القضايا المبتنية على تلك الحقيقة , وهو يعود إلى قوة النفس طبعاً ، فيكـون التأويل مع وجود ذلك التأثير النفسي اقرب إلى الخطأ منـه إلى الصواب , لان هذا الأسلوب خارج نطاق العقل , إنما هو أسلوب تهرّب عقلي . فكان  لهـذه التـأويلات دوراً في فرض بعض الأفكار النفسية والأفكار الغريبة المؤدية إلى تدمير المسير الصحيح للعقل وعدم توسعه .

   ثالثـاً : الإهمال , فإن أكثر الناس ـ من أصحاب الظاهر كانوا أم من أصحـاب بـاطن ـ أهملـوا الجانب العقلي , واتكلوا على مرتكزات بسيطة سـواء كـانت من أصحاب الرسالات ، أو من الحق سبحانه ، بطرق مباشرة أو غير مباشرة , والذي أدى بطبيعته إلى تضعيـف العقـول , وكـل شـيء يقـل اسـتعماله يضعُـف، إنما الاستعمال تقوية ثم انتقال .

   وكـل هـذه الأمور تعود إلى الإرادة النفسـية الناتجـة مـن سيطرة النفس حيث إفراز قيود تحـول دون وصـول الإنسان إلى معرفـة العقل ومدى اتساعه . وكل ذلك يُعد تقصيراً في عبادة العقل ، أي نقصاً في عبادة الإنسان ، حيث الواجب على الإنسان أن يعبد الله بكل الجوانب الإنسانية لا بالجسد فقط ! لكي يصدق عليه مفهوم العبودية .

   وللعقـل عبادتـه الخاصـة بـه وهـي من أرقى أنواع العبادات ، وأهم جوانبها وأعظمها التفكر . حيث إطاره الخاص وكماله الـذي لا يستطيع تجاوزه ، إنما عند الوصول إليه يبقى العقل في عالمه . والتفكـر لا يتعدى المستويين من الوجود , وهما مستوى الخلق , ومستوى الحق المتعلق بالخلق , أما فوق ذلك فهو ليس من عمل أو عـالم العقـل . فيصـل الإنسان إلى الروابط بين الحق والخلق ومعرفة الأنظمة الإلهية ، وأسرار الخلق ، وعلاقـة الماديـات بالمعنويـات ، وكذلك يصل الإنسان عن طريق عبادة التفكر إلى بعض الطرق المؤدية إلى طريق المعرفة , ( لم تجعل للخلق طريقا إلى معرفتك إلا بالعجز عن معرفتك) أي بـالعجز العقلي الناتج عن الوصول إلى كمال مقام العقل وبالتالي الدخـول فـي عالم اللاهوت وهو عالم الحق .

   وعبادة العقل في الواقع هي كل فعـل عقـلي معنـوي ، سـواء تـلازم مـع الفعـل المـادي أم لــم  يتلازم , وكانت فيه نية التقرب عُدَّ من عبادة العقل .

   وبمـا أن العقـل أرقـى المسـتويات الثلاثـة ، أصبحـت عبادته ارفع أنواع العبـادات , لان عبـادة العقل تستلزم تنزيه الحق بـاليقين العقـلي عـن بعض المعتقدات الكائنة في مقام النفس والتي تُعتبر في مقام العقل غريبة عن أفعال أو صفات الحق بالمعنى العقلي المجرد ، وحسنات الإبرار سيئات عند المقربين , لذلك قيل ( تفكر ساعة خير من عبادة سبعين عام ).

   وابسط أنواع  التفكر ، يكون في الآيات القرآنية ذلـك لبساطة أخذ الفائدة الرافعة لمستوى المتفكر. لان القرآن يناسب كل المستويات العقلية .    
         
   وفي عالم الجبروت  مستويات  ومراتب عديدة ، والداني منها  يحجب عن العالي عند  الاستحقاق .      
    
   وللوصـول لمقـام العقل يحتاج الإنسان إلى استعداد عالٍ يوفر له التواصل وعدم التوقف ، حيث يبدأ الإنسان بأبسط الأمور وهـي استخـدام العقل في الأمور البسيطة الظاهرية والتي تقربه من الحق ثم يـترقى إلى ما هو أوسع مـن ذلـك وأدق ، حتى يصل إلى الاستعداد الحقيقي لبلوغ ذلك المقام . وهذا لا يكون إلا بعد تضعيف النفس بالمجاهدة والرياضة . ثم يبدأ الإنسان المريد بـالفصل النفسي العقلي فيأخذ العقل استقلاله بكامل قواه دون أي تأثير نفسي حقيقي . فيضحى تفكر الإنسان صائباً رغم اختلاف الأحوال التي تمر عليه سـواء كـانت جسمانية أم نفسـية أم قلبية , حتى يصل العقل إلى نهايـة كمالـه . ويصـل إلى عدم السيطرة على توقيف التفكر أو عدم السيطرة على العقل بكل جوانبه ، عندها يتأتى للفرد التفكر أثناء النوم الظاهري ! والذي هو ناتج عن الفصل النفسي العقلي , لأن النوم طلباً نفسياً , فلو حصل الفصل لاستطاع الإنسان الجـمع بيـن جوانبه دون طغيان احدها على الآخر .

   وللعقل استعدادات فكرية يصعب على الإنسان الظاهري أو طالب الكمال البدائي القيام بها , وذلك لأنها توجب حركة نفسية غير طبيعية قد تؤدي به إلى الخروج عن الخط الصحيح لذلك أصبح وجود الموجه في هذا المقام ضرورة .   
      
   ومـن المنازل المهمة لمقام العقل والتي تعطي العقل القابلية للنفاذ إلى بواطن الأشياء وتوسع العقل الباطني هي منزلة الحيرة . فإن دخـول الحـيرة المعنويـة العقليـة وباستعداد كافي يوصل إلى نتائج عقلية سامية في عالم الجبروت ، ومما يتحقق في منزلة الحيرة المعرفة بالالتفات ، أي فقط بالالتفات تتحقق معرفة ما يلتفت إليه . لكنه يحتـاج فترة من الزمن طويلة نسبياً ، وان كانت على حسـب اسـتعداد الشـخص , فيُدخِـل الحـق سـبحانه وتعالى مريديه مع تسقيط الأسـباب فـي متناقضـات مـن المحـتمل أن تـؤدي بالإنسان ذو الاسـتعداد البسـيط إلى الخروج الكلي من الكمال التصاعدي , والنزول المفاجئ إلى الخط الآخر .

   وهذا المقام يحتاج إلى التزود بالصبر والتأني ، والأصعب من ذلك هو بقاء الظاهر في كل مستوياته على ما هو عليه . وقلما يدخل أصحاب الباطن هذا المنزلة . إنما تمر على الفرد بعض الأحوال الذهنية من أثر نزول الحكمة الإلهية .

   ومـن اكـبر الفوائـد لهذا المقام هو السيطرة على النفس الأمارة , فعند الوصول لذلك المقام تسقط النفس سقوطا كلياً , ولا يبقى لها أي تأثير على الإنسان بما أن التـأثير النفسـي يعود للإرادة الإنسانية , فعند دخول هـذا المقـام تسقط الإرادة النفسية لدى المريد .

   وعندمـا يصـل الإنسان إلى كمـال عـالم العقل ، واعني العقل المادي يتصل بالعقل المعنوي , وهو غاية كمال العقول , حينئذٍ لا يبقـى للإنسان أي تفكـير بـالمعنى المعروف لدينا , إنما  يكـون عملـه كالإلهام .

   وغايـة العقـل الفعّـال الوصول للروح العليا . أما مَن يصل إلى العقل الفعّال ولم يتعداه فهو متوقف , وإذا تجـاوز الإنسان عالم العقول أصبح العقل من اكبر الحجب التي تحجبه عن الوصول , لان المعارف ستكون أعلى مـن كمال العقل , فلا يتقبل العقل منها شيئاً, وإذا وردت إليه فسوف يسـارع بالإنكار , فعندها يجب تسقيط العقل ـ وليس المقصود هو أن لا يفكر الإنسان ‍‍‍‍‍! إنما نعني التعامل في ذلك العالم حيث طبيعته لا عقلية وإنما هو ما وراء طور العقل ـ . فيبدأ حينها الاتصال بالروح العليا ومن خلالها يكون اخذ العطاء الإلهي فيختلف العطاء اختلافاً جذرياً عن سابقه .   


( هذا والحمد لله الذي أتم علينا نعمه )





جديد قسم : فيوضات من الباطن

إرسال تعليق