النفس الأمارة بالسوء وتضعيفها والفائدة منهما

فيوضات من الباطن
النفس الأمارة بالسوء وتضعيفها والفائدة منهما

الباب الثامن عشر
النفس الأمارة بالسوء وتضعيفها والفائدة منهما

   إن من الفروقات بين الشيطان والنفس الأمارة بالسوء ، هو أن الشيطان لا يَعدو عمله عن كونه تزييناً ، أي يزين بعض الأعمال والأفعال للإنسان أو يقبح له بعضها فلا يتجاوز عمله هذه المرتبة بل هو مقيد بها . أما النفس ففعلها ليس تزيناً وإنما إيجاد احتياجاً وهمياً لدى الإنسان لعمل ما أو لشيء ما كاحتياج الأكل والنوم والجماع وغير ذلك ، ومن قبيل أنك ترى الصائم يشعر بالعطش أو الجوع من بدأ صيامه ، علما أنه في غير الصيام لا يشعر بالجوع إلا بعد مضي فترة معتدٍ بها . ويتحصل من ذلك أن الدافع النفسي أقوى من الدافع الشيطاني ، وعليه تكون حجابية النفس أكبر وأكثر من حجابية الشيطان .

   وعندما يعبّر القرآن عن النفس بـ(الأمارة) ذلك لأن طلبها من القوى الإنسانية هو طلب أمري وليس تزيين فقط ، والأمر أعلى من التزيين .

   بل إن الشيطان ينتهي تأثيره في المراحل الأولى من الطريق ، أما النفس فتستمر إلى مراحل متأخرة .

   وهذا ليس هو موضوعنا ، لكنا احتجناه من أجل التفريق بين النفس والشيطان ولو بحدٍ واحد . فالنفس هي المسبب الأكبر في الأفعال الخارجية والداخلية الخارقة للنظم الإلهية .

   والنفس هي المرحلة الأولى للبشرية ، وعند المسير في الكمال يجـب تجاوزهـا وذلك يكون بـ( التسقيط ) لان الكمال هو تجاوز المراحل الإنسانية ، لذا يجب على كل من أراد سلوك طريق الكمال الخاص أن يتجـاوز عـالم النفس ، وحتى في الكمال العام ينبغي أن يصل الإنسان إلى ذلك لأن الكمال العام يوصل إلى الكمال الخاص ضرورة إلا إن يحصل انحراف في المسير . فالبقـاء في عالم النفس تـوقف لكـلا القسمين من البشرية أي العامة والخاصة.

   وأودع الحق هـذه النفس في الإنسان , ولها من الأضرار مالا يحصى ، بل هي السبب في تسافل البشرية ، فلماذا أودعها في الإنسان ؟.

   أقول : إننا عند كلامنا بل ورؤيتنا للنفس لا نتكلم ولا ننظر منها إلا جهة واحدة وهي جهة الآمرية ، وإلا فإن كل ما أوجده الحق هو متكامل من ناحية الأصل , حيث الأصل هي القابليات الإلهية المودعة في هذه الموجودات . فإنها متكاملة قوة لا فعلا ، ومسيرها في الكمال يحقق لها التكامل الفعلي .

   فكل مخلوق حوى على كل الكمالات في باطنه ، فنتج من ذلك أن كل شيء في كل شيء ، ولا يدرك غوره إلا من كُشف له .

   فكما أن لها أضرارا فلها فوائد والمفروض أن لها من الفائدة أكثر مما لها من الضرر ، وهذه الفوائد تخدم الإنسان في تكامله التصاعدي وكذلك تخدم النظام في التكامل التنازلي ، ومن فوائدها في الطريق التصاعدي :

   أولاً : إنها السبب لبقاء الكيان الإنساني ، فبدونها يكون الموت ، فهي السبب الرئيس لبقاء الحياة وتناميها على حسب النظام الدنيوي .

   ثانياً : إن وجـود النفس هـو دافـع لتجـاوز مقـام النفس المؤدي  للمسير في الكمال .

   ثالثاً : إن وجود النفس يُسّهل على الإنسان الرُقي التدريجي مما يؤدي إلى الاستمرار في التكامل حتى يصل إلى الخط الترابطي بما فوق ذلك المسـتوى ، لان فقـدان أي مرحلـة من مراحل الكمال يؤدي إلى فصل بين الكمالات الإنسانية .

   رابعـاً : إن الاستعدادات النفسـية بطبيعتها لها القابلية على التلقّي والتحّـول مـن شيء إلى آخر ، وبها يكون التحول من الجانب التسافلي إلى الجانب التصاعدي ، ( والعكس للمتسافلين ) , ثم الوصول إلى الصفات الإلهية لان الصفات تكمن في النفس إي أن الفضـائل تـزرع في النفس لا غيرها .

   خامساً :  إن المرحلة الأولى من الرقي تحتاج إلى قوة تكون لها القابلية على الاكتساب الكلي ، أي اكتساب طرفي الصفات , وهذا لا يتوفر إلا بالنفس .

   سادساً : إن أفضـل الطـرق في المرحلة الأولى من العرفانية هو طريق الضـد . فتكـون من أفضل الطرق للمعرفة اليقينية الحقيقية لان وجود الشـك يوجـب قـوة اليقيـن . وفوائد النفس لا تحصى إنما هذه أبرزها .

   وفي ما يجب على المريد في المرحلة التكاملية الأولى تجاه نفسه هو التضعيـف ، أي تضعيف قوى النفس الشهوية والذي يكون من خلاله الكمـال الروحي غير المباشر بالانطلاق من عالم النفس . هذا بالنسبة للكمـال الأدنى وليس الكمال الأعلى والذي يُبتغى فيه معرفتها .

   وهنالك الكثير من أساليب تضعيف النفس وتقريباً كل مراتب السفر الأول في طريق العرفان تصب في تضعيف وتقييد النفس . وأهم هذه الأساليب هو أسلوب المجـاهدة ، والذي هو اكبر الأساليب تأثيراً على القوى النفسية ، وهـو الأسلوب الـذي حـث عليه القرآن الكريم وحببه لأرباب النفوس ، يقول : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } [محمد : ٣١] وقال كذلك في سورة العنكبوت : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [العنكبوت : ٦٩] وكذلك قول الرسول الأعظم للبدريين : ( قضيتم الجهاد الأصغر وبقي عليكم الجهاد الأكبر... واعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك ) إلى غيرها من الآيات والأحاديث التي تضج بها كتب المسلمين على اختلاف ظواهرهم ، وهي معروفة على مستوى الظاهر .

   والمجـاهدة : عندنا هي حمل النفس على ما تكره ، من الأفعال والأقوال والأحوال . وما تكرهه النفس هو كل فعل أو قول يكون له الأثر بالتقرب إلى الكمال المطلق والخروج من سلطان النفس إلى سلطان الحق ، فكل الأفعال القربوية تحتاج إلى ضغط على النفس لأدائها إلا ما كان بالجذب الإلهي أو الاعتياد النفسي أو اطمئنانها بذلك الفعل .

   ويرتبط بالمجاهدة أصلان وهما في نفس المرتبة الكمالية وأعني بهما المخالفة والرياضة .

   والمخالفة : هي معاكسة النفس فيما تريد ، وفرقها عن المجاهدة أن البدء في الإرادة للمخالفة هي النفس وفي المجاهدة هي ذات الإنسان. وتكون المخالفة بكل ما تريده النفس وتُقبِل عليه إلا ما كان حسن من الأفعال والذي استساغته النفس بالترقي إليه فأصبح داخل إطارها الجديد .

   أما الرياضة : فهي ترويض النفس وسوسها على صفة أو فعل ما . ولا تكون إلا في الأفعال والأقوال والأحوال التي تسمو عن واقع النفس ، أما ما يدنو فهو من ضمن نظام النفس فلا يحتاج إلى ترويض إلا أن تكون النفس صاعدة بتمكن الصفات منها حينئذ يحتاج النزول إلى ترويض .

   فتؤدي المخالفة والرياضة نفس الفائدة المتحصلة من المجاهدة لأنهما يؤديان إليها .

   ومن أصول العمل في المجاهدات ، أن تكـون المجـاهدة تدرجية لتجنب الضغط على النفس والذي يُعقب أحياناً أمـرين مـن الصعـب الخـروج منهما ، وهما إما تحول الخط والانتقـال إلى خـط الكمـال المعـاكس ، أو طغيـان النفس على العقل .

   وتدخل المجاهدة ضمناً في أفعال كثيرة ، وإن كانت هذه الأفعال ليست جهادية بالمفهوم الخاص لكنها كذلك بالمفهوم العام إذ أن تحقيقها يستلزم ضغطا على النفس إنما الغاية ليس الضغط كما المجاهدة وإنما تحقيق مصلحة أخرى ، كالتكاليف الشرعية فإن فيها نوع من المجـاهدة ذات المستوى الأولي والمقبول لكل الاستعدادات التي تؤدي إلى العبوديـة بقسميها . وكذلك التنقل من درجة إيمانية إلى أخرى ، فإن الطبع ألاستقراري للنفس يحول دون التنقلات والتغيرات المعنوية ، نعم النفس تخالف هذا الطبع إن كان التنقل نفسياً أي في نفس عالمها كالتنقل بين المآكل والمشارب والمناكح ، بل هي تطلب ذلك ، أما التنقل من مرحلة عبادية إلى أخرى فهذا ضد رغبات النفس . لذلك يحتاج الفرد إلى شيء من المجاهدة للانتقال من مرحلة إيمانية أو كمالية إلى أخرى . وأيضاً قطع العلائق النفسية المادية أو المعنوية ، فإنها تحتاج في تحقيقها إلى شيءٍ معتدٍ به من الجهاد ، لان قوة النفس تتمركز بكثرة العلائق ، والنفس إذا أثبتـت وجودهـا انتقلـت إلى تدريجاً للسيطرة التامة على الإنسان وذلك بالتقييد النفسي والذي يكون من خلال التعلق بالأشياء . ففي مرحلة قطع العلائـق الدنيويـة تضعف النفس وتقـوى السـيطرة الروحـية ، لان قطع العلاقـة ليس بـالمعنى المفهوم ، إنما هو نقل العلاقة من المخلوق إلى الخـالق ، فتتكـون من ذلك المستوى فائدتان من التجرد . ثم إذا اسـتمر الإنسان فـي مرحلـة المجـاهدة النفسـية والتي من مصاديقها عدم إعطاء الحرية للنفس حيث تُقيد القوى النفسية مع بقاء الذات النفسية , لكن دون السيطرة الحاجبة عن المسير في الكمال المرحلي الأول , فسوف يكون هناك تحرر جزئي من هذا العالم النفسي .

   وهذا القطـع يتبعـه زرع ، إي إن قطـع العلائـق النفسية الدنيوية بنية التقرب للحق المطلق يوجب نزول علائق جهة الحق الرابطة للمريد بالجناب الأعلى عندها يتذوق محبة ربه . وكذلك فإن التخلي من الرذائل والتحلي بالفضائل الموجبـة للصفـات الحقـة ، هو ترويض للنفس على فعل الفضيلة ، والرياضة كما أسلفنا هي نوع من المجاهدات ، لأنها لا تكون إلا بالمعايشة المؤدية إلى الاعتياد على فعل الفضيلة والمُمكّن لصفة الفضيلة ، ولا أقول كل الفضائل تكون بالاعتياد إنما شيء من ذلك .

   لكن أساس تضعيف النفس والخروج من سلطانها يعتمد على المعرفة اليقينية المؤدية إلى رؤية حجابية النفس لكي تستخرج إرادة العمل للخروج من عالمها ، والمعرفة هي الدافع الأول للعمل ، ويهب الحق هذه المعرفة للمريد على قدر استعداده . وتكـون المعرفـة عمليـة فيبين الحق للمريد كيفية تضعيف النفس أو كيفيـة قطـع بعـض الجـوانب النفسية . فمن عرف حجابية النفس وأراد العمل لإزالتها فسيبين له الحق ذلك  .

   وقوة النفس تكمن في عالمها وهو عالم الوهم إذ أن الخروج من الوهم هـو قضـاء عـلى السيطرة النفسية .

   وهـذا العـالم الـوهمي هو من مقتضيات النفس وهو الأرض الخصبة لنشوء النفس ، لذلك وضعه الحق تعالى ، وكذلك فمن خلال يكـون الكمال النفسي التنازلي والسيطرة على الـذات الإنسانية . فهو يعتبر سيطرة بذاته لان دخول الإنسان في الـوهم يوجـب العمـل على طبق النظام الوهمي العشوائي إذ لا نظام في عـالم النفس إلا عنـد دخول المعنويات السامية في العالم الثالث الذي يـرى فيه الإنسان علاقـة الأشياء ببعضهـا ففي المستوى الأول هي علاقات وهميـة بالنسـبة للـوضع والاعتقـاد بها وبعلاقاتها مع النفس وليست وهمية في وجودها .

   نعم ولِدَ الإنسان عـلى الفطـرة ولكـن الدافع الداخـلي والتأثير الخـارجي بهما اكتسب الإنسان بعض الصفات الموجبة للدخول في الأوهام حتى ترسّـخت فـي النفوس وفُرضت على العقول وأمست أسساً وأفكاراً عقلية.

   ولا يسـتطيع الإنسان أن يزيل هذا الوهم إلا بالخروج من عالم الـوهم ( نعم بمقدور الإنسان أن يتجرد من قسم لا بأس به من الأوهام مع وجود النفس ) وهـذا الخـروج لا يكـون إلا بالتسقيط أو السـيطرة على النفس وتقيدهـا . والإنسان يمـر بالـواقع ولـو للحظات قليلة في السنة يسـتطيع أن يحـقق الوصـول لعـالم الحـقيقة الـذي أضاعـه بالابتعاد والانحراف مع الرغبات النفسية .

   ويُعـذر المجـتمع في رأيي إن رفض طريق المعرفة ، بسبب ابتعاده عن الحقيقة حتى أصبحت الحقيقة لديه هي الوهم ، والوهم هو الحقيقة وكل ذلك جرّاء الانحدار مع النفس وإطاعتها على مر العصور .

وللخروج من عالم النفس يجب :

   أولاً : تـوقيف التوسـع النفسـي الـوهمي ، فالنفس في توسع مستمر، ولا تتوقف إلا بعدم تحقيق رغباتها وشهواتها والأنسب لذلك هي المخالفة أي مخالفة الرغبات النفسية ، ويجب البدء بالأسهل .

   ثانيـاً : قطـع الاعتقـاد النفسـي ، وهذا يكون بالمعرفة التي يكشفها الحق لمن أكمل المرحلة الأولى ، والتي يجب اليقين التام بهـا . والمعارف في هذه المرحلة هي معارف كمالية نفسية ، أي إنها معارف تستوجب العمل وليست معارف حقيقية ، ونزولها من خلال الحس القلبي .

   ثالثـاً : كسر شوكة النفس وتحرير الروح من قيودها وذلك عبر طريق المجاهدات ، لأجل الوصول إلى البرازخ العليا حيث يكون في مأمن نسبي من النفس الأمارة بالسوء . فان وصل المريد إلى البرازخ العليا وتجاوز البرزخ الوسيط ، كان اقرب إلى العقل الفـعّال ، وعند تجاوز العالم الثالث يكون الاتصال بالروح العليـا لأخـذ الاسـتحقاق منهـا وجلاء التأثيرات على الذات المهيأة للوصـول للحـق فعندهـا يدخـل الإنسان عالم الحقائق وتسقط جميع الأوهام بكل مراتبها .

   والعمل الأول للإنسان في ذلك هو النية وهو العمل المعنوي الموجب لنزول العطاء الأول والذي هو معرفة النفس بالمعرفة البدائية . فعـلى الإنسان النيـة ثـم العمل ولا حول ولا قوة إلا به سبحانه .

   واعلم : أن وجود النفس بالقوة الكاملة يمنع من قيام العدل في العوالم الإنسانية . بل وغير الإنسانية ، لان الحقائق لا تقوم بالأوهام , فلا قيام للعدل مع وجود النفس الأمارة بالسـوء البتة !! فمـن  شروط الوصول للعدل وتحقيق القسط هو الخروج من عالم الوهم ، بل اجزم بوحدة شْرطيته .

   وإلا فان النفس لابد لها من أن تخرق النظام وتخلق لها نظاماً تحقق من خلاله كل الرغبات المؤدية إلى التسافل .
   
فوصول البشرية إلى مراتب العصمة لا يتحقق إلى بالمسير في طريق الكمال .

   أما سـلوك طـريق المعرفة دون السيطرة على النفس فهذا لا يؤدي إلى النتيجة المرجوة ، فالترك أولى له فأولى ثم أولى له فأولى ، لان الإنسان يكون مُعرّضاً للخطأ في هذا الطريق أكثر من الإنسان الظاهري والحق عادل يعطي كل عامل أجره .

   إذن التضعيف في المراحل الأولى يكون بالمجاهدة والمخالفة حتى تتولد سيطرة جزئية ، ثـم بدخـول المقامات لأنها كذلك تصب في مقام السيطرة النفسية حتى يصل الإنسان إلى الحقيقة عندها يبدو له من الحق ما لم يكن يحتسب !.


( وإنا إليه لراجعون )



جديد قسم : فيوضات من الباطن

إرسال تعليق