فيوضات من الباطن
 اليقين


الباب التاسع والعشرون

اليقين


    إنّ فعليـة أي شـيء فـي كـل العـوالم إن افتقـرت إلى درجة اليقين المُرتَبـة لـه أحدثت ضـرراً من جهتين ، جهة الوصول إلى حقيقة الفعل ، وجهة ما يؤدي إليه ذلك الفعل نفسه .

   فكـلُ فعلٍ خلا من يقينه أو ظلم الفاعل شيئاً منه رجع الضرر على الفـاعل ، أما الفعـل فـلا يتضرر كماله بذلك , حيث كماله مركوز في الفعلية وقد وقعت . هذا على مستوى الكمال العام للفعل.

   وكـون اليقيـن فـي الفعـل قبل القيام به , يؤدي إلى الهيمنة الكاملة على جميع جوانب الفعل دون غلق أي جانب منه .

   والشمولية موجـودة لكـن نقص اليقين له تأثير على الرؤية بصورة غير مباشرة ، فالغفلة تلازم نقص اليقين ، فتؤدي بطبعها إلى إغلاق أجزاء من الرؤية والذي يعود إلى نظام الاستحقاق .

   وفي اليقين تكمن قوة الرابطة المعنوية بين الفاعل والفعل حيث الانفعال يكون كاملاً ، واليقين هو من اكبر دوافع الإرادة .

    نعم ، قد تتحقق بعض الأفعال مع ظلم اليقين الواجب لها مما يؤدي إلى عكس ذلك النقص في النتيجة ، إذ أن الله سريع الحساب .

   وظُلـم الفعـل من استحقاقه اليقيني يعود لتأخر مرتبته من اليقين وتحققه في مرتبة من مراتب اليقين هي ليست لذلك المستوى من الفعل وهذا التقدم والتأخر ، أي تقدم الفعلية وتأخر اليقين يعود إلى الفاعل نفسه وان كان الفاعل لا يعلم ذلك بالعلم الفعلي إذ يكون لديه غفلة ذهنية عنه ، لذلك يجزم الإنسان أحياناً بأن فعله كان بيقين لكن النتيجة لم تكن المتوقعة .

   أما مـراتب اليقيـن فهي عديـدة ومـن الصعـب حصرها ولكنها منحصرة في الأصول الأربعـة لليقيـن وهي ، علـم اليقيـن ، وعيـن اليقين ، وحق اليقين ، وواقع اليقيـن ، فكل أصل من هذه الأصول يحوي على يقينية الأصول في كماله ثم ينتقـل إلى الأصل الثاني , أي إن كمال حق اليقين الموجود في علم اليقين يعتبر المرحلة الأولى من عين اليقين .

   فأقول : إن هذه الأصول اليقينية هي ليست مراتب ثلاث فقط يتدرج بها الإنسان في سلوكه الإيماني أو مسيره التكاملي ، أي إذا وصل إلى حق اليقين بقي فيه لأنه هو أعلى المراتب !  كلا إنما هي أصول لليقين تواجه الإنسان في كل المراحل الخاضعة لليقين ، إذ أن من الصعب دخول كمال اليقين من أول وهلة بالمقام أو غيره ، إنما يمـر الإنسان بهـذه الأصول حـيث الأول هو استعداد للثاني، والثاني اسـتعداد للثـالث وهكـذا .

   فطالب الكمال عندما يمر عليه علم من الفناء فإن ذلك هو الأصل الأول ، فإن أصابه حال للفناء فهذا الأصل الثاني ، أما إذا عاش الفناء أي رآه بعين الشهود ، فذاك هو الأصل الثالث ، وإذا عرف الحقيقة الواقعية للفنـاء دون الوقوف على المعرفة الأولى أي معرفة سر الفناء ، فذاك هـو الأصـل الـرابع ، وكذلك في المقامات الدانية أي ما دون التوحيد . فـإن المريد يمر بهذه الأصول وان كان في أكثر الأحيان لا يمر بالأصل الـرابع أي يخـرج مـن المقامات دون الوصول لهذا الأصل ولكن يتحقق بمقامات أخرى .

   وأما كمال اليقين فهو في التمكين في البقاء بالوجود الحقاني الذاتي وهـذا لا يكـون إلا بـالواقع الحقيقي وقد حُجب عن ذلك أكثر العارفين حـيث لا يتحـقق هـذا اليقين إلا بالتجرد الواقعي ، وهذا لا يكون إلا بالوصول إلى كمال التجرد ، أي خرق البواطن .

   نعـم الطـريق مفتوح والإنسان معروف ، لكن الإرادة الإنسانية أبت الوصول ، وإنا هديناه السبيل .

   أما حقيقة اليقين وهو اليقين المطلوب لمن يجهل المراتب والأصول، هو أن يصل الإنسان العارف مثلاً عند نزول المعرفة إلى درجة من الاستقبال الحقيقي للمعرفة ، بحيث تأخذ المعرفة مستقرها الحقيقي منـه ، أي تنـير القلوب عند نزولها بنور الحق ، وتشرح صدر العارف ، بما أن لكل معرفة درجـة مـن درجـات اليقيـن فـإن نقصـت هذه الدرجة شيئاً من اليقين أصبحت المعرفـة معرضـة للـزوال في أية لحظـة ، بل أي وهم عقلي يزيل تلك المعرفـة ، علماً أنها أعلى من مستوى العقل .

   وتعتمد قوة اليقين على أمور عديدة ، عند فقد بعضها أو حصول الضعف فيها ينتج ضعفاً في اليقين ، وهذه الأمور عديدة جداً وذات مسـتويات ، بل أحيانا يكون منها ما هو مفيد في مستوى ومضر في مستوى آخـر ، وغيرها من الأمور الدقيقة التي يصعب بيانها لاحتياجها إلى المعايشة الذوقية . فمن مقومات اليقين قوةً :

   أولاً : الاسـتعداد الفطـري الأول . ففي الظاهر والباطن يكون الاستعداد الفطري من الجوانب المقومة لقوة اليقين ، حيث وجود ذلك النور الذي يمهـد لاسـتقبال أي فعـل بدرجة من اليقين معتدٍ بها ، واعني بالفعل هو المتحقق من الإرادة الإنسانية ، وان كان هـذا الاسـتعداد في مستوى من مستويات الكمال يؤدي إلى ضعف في الكمال الحقيقي ، بل أحيانا يكون حجـاباً عـن اليقيـن ولكـن ذلـك في مراتب عالية جداً ، لذلك نرى إن أصحاب الفطرة أكثر الناس تصديقاً واقرب يقيناً .

   ثانيـاً : الإخلاص ، فإن قوة اليقين تعتمد على الإخلاص اعتماداً ليس بالمستهان ، فإذا توفر لـدى الإنسان إخلاص في العمل فسوف يستدعي يقيناً بـذلك العمـل . أما لو أشرك الإنسان في عمله  بأن يجعل عمله لله وللمصلحة الخاصـة فسوف يُضعف يقينه ، وإذا كانت هنالك إرادة بسـمك خـيط العنكبـوت لمصلحته فسوف تأخذ جزءاً من اليقين . أما لو أخلص الإنسان فعله فستتحقق له درجة من درجات اليقين ، سواء كان هذا الفعل للحق أو للباطل ، حيث أن اليقين ليس مقيداًً بطريق الحق . نعم إن الإنسان في غير طريق الحق لا يصـل إلى حق اليقين ولكن يصل إلى مستوى من مستويات اليقين ، فيؤثر في إرادة الإنسان ، أي تحريك الإرادة النفسية لطلب ذلك ومن ثم كماله .. والإخلاص كذلك يعود إلى أُمور أهمها التجرد من الشهوات النفسية بكل مستوياتها حيث العدو الأول للإخلاص هما النفس وحب الدنيا .

   فـإذا تجـرد الإنسان من المصلحة النفسية وان كان قليلاً فسوف يناله حظ وفير من اليقين .

   ثالثـاً : صفـاء النيـة : إن كانت نية الإنسان صافية وخالية من كل شائبة ، اعني بالأصل أي الأصل من الفعل وليس عند فـعل الفعل . حـتى لو طرأت بعض الشوائب فليس لها من التأثير ما لو كانت في الأصل . فإن جرد الإنسان نيته في كل فعل ، أصبح لديه يقين معتدٍ به أو يقوى يقينه إن كان لديه يقيناً أصلاً . والنقطة الثانية والثالثة تعتمد على عمق التجرد . وربما يقول احد إن هذا تسلسل والتسلسل باطل ؟ .

   أقول نعم التسلسـل باطل في اللامتناهي ، أما ذلك فانه متناهي ، هذا جانب . والجانب الآخـر : يسـتطيع الإنسان أن يدخـل مـن حيث شاء فالمداخل موجودة في كل الأشياء ، فيستطيع أن يبدأ من الفعل دون الرجوع إلى غيره والحق في كل مكان { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البَقَرَة : ١١٥] .

   رابعاً : العقل ، فيعتمد اليقين في مستوى من مستويات الباطن وفي أكثر مستويات الظاهر على العقل .

   فكلمـا كـان العقـل صـالحاً نسبياً وقليـل الأوهام أوصل إلى يقين معتدٍ به . لان النفس هـي المُنقصة لليقين فإن وجِدَ الضد حَصَل شيء من اليقين ، وكلما ارتقى العقل حقق مراتب أعلى من اليقين ، ولكن لا اعني بالعقل هذا العقل الذي يتعامل به الناس في كل المستويات إنما هذا حجاب العقل !! . فهـذه الأمور وغيرهـا يعتمد عليها تحقق اليقين .

   واعلـم : إن للعقـل الواحـد مـراتب مـن اليقيـن إذ لكل شيء كماله ، والكمـال عبـارة عـن مسـتويات فـترى أحياناً بعض المريدين يقـوم بتكليفـه أفضل وأسرع من غيره ، أو تجـد أن مريداً يهتم بطريقه أكثر من غيره ، فإن السبب في ذلك إذا لم يكن اليقين فانه يعود إلى عدة أسباب من ضمنها اليقين ، إذ أن الفعـل واحـد والفـاعليَن فـي مسـتوى واحد من المقام ولا أقول من الكمال . وهذا أكثر الأشياء وضوحاً . فإن أكثر الخلق يعملون دون اليقين المطلوب لذلك العمل .

   وأحياناً يزول اليقين من الإنسان ، فالطالب عند خروجـه مـن طريق الكمال الخاص ، معناه عـدم وجود اليقين بالطريق حتى وان كان يتوهم بوجود اليقين ، وكلما زال شيء من اليقين فترت همة المريد حتى يصـل إلى الكفر بالفعل أو الطريق الذي هو فيه . وواقعاً هو من اكبر الأمراض الباطنية ، وحتى في الظاهر فعلى مستوى الشريعة إن بعض المؤمنين تركَ الالتزام ألعبادي . ومن الأسباب هـو الضعـف الباطني حيث يتعلق بشيء نفسي بدوره يحجبه عن هدفه , لأن الضعف يعود إلى شيء بسيط مثل الإهمال أو الغفلة أو غيرهـا مـع مجـاراة الإنسان لذلك الخطأ ، والمتحكم هي إرادة الإنسان لا غير . وكذلك من الأسباب هي الخواطر النفسية الناتجة عن الرغبة النفسية .

   فـإذا اهتم الإنسان بالخـواطر النفسية أخذت بالازدياد والتمكين حتى توصله إلى درجـة الظن ثم الشك ثم الإنكار فينتقل إلى الجانب الآخر ، وكما قلنا أن للتسافل نظاماً ، وكذلك بعض الأمراض الناتجة من مخالفة التكليف أو الخطأ في أداءه ، فإنها مُضعفـة للهمة ومقوّضة للعزم ، وربما توهم أنه يحسن صنعاً ! ، مثل من يرتكب الخطأ ويؤنب نفسه على ذلك الخطأ فيأخذ بالتأنيب واللوم المُبعد عن الطريق أي ينظر إلى الخطأ دون النظر إلى مقابله وهي الرحمة والمغفرة ، فيكون البقاء فيه مبعداً ، والواقع هو يعود إلى رغبة نفـسه ! ولو كُشف للإنسان عن ذلك لرأى أن في اللـوم والتأنيب لذة نفسية ناتجة من ألم اللوم والتأنيب ! وهذا من خفايا النفس ، لكن لا يرى ذلك إلا القليل ، أما لـو كـان فـي اللوم ألم خالص لتجنبته النفس ، فأمعنوا النظر هداكم الله وجردوا عقولكم لتروا ما أنتم فيه ، واعلموا أن العقول كلها متساوية فلا تقولوا عقولنا قاصرة ، فإن في ذلك باب واسع .

   أما إرجاع اليقين بعد زواله فذلك بـأمور عديـدة منهـا : معرفة السبب ثم أزالته ، وبالمعرفة الباطنية حيث أن بعـض المعارف هي علاج وان كانت ظاهراً بعيدة عن ذلك ، وكذلك بالطلب الحقيقي من الحق تعالى مع الاستعداد له ، وأبسط من ذلك أن يقوم بالفعل حتى لو كان بدون يقين فان اليقين يحصل وأعنـي به اليقيـن العام ، لان اليقين العام لابد من وقوعـه وان كـان شيئاً بسيطاً منه ، أي يدفع لفعل آخر مع وجود التأثير النفسـي ، لكن كلما زاد اليقين قل التأثير النفسي فيسير في كماله اليقينـي وهكـذا . فيسـتطيع الإنسان أن يوجـد اليقيـن إنما الإرادة الإنسانية هي المتحكمة في بقاءه وتقويته وإزالته .

( وسبحان من أراد لعباده البقاء )





جديد قسم : فيوضات من الباطن

إرسال تعليق