فيوضات من الباطن
 النية


الباب الخامس والعشرون
النية

   النية هي الصادر الأول من كل مخلوق على النحو التحريكي وهي الأساس في البناء والمحرك لمحرك المسير , وعليها تكون فاعلية الأفعال والأقوال وتأثيرها في دائرة الوجود .

   والنية : هي اطمئنان قلبي واستقرار نفسي إزاء شيء معين مسبوق ٍ بمعرفة أو لا مسبوق , ولها وجود في كل صوادر الخلق من أعلى مراتبه إلى أدناه , ولها مدارج من القوة والضعف , وذلك ارتكازاً على عوارض اكتسابية أو مصاحبية حيث يؤول مآلها إلى القوة والضعف أو قُل إلى الصفاء التجريدي أو الكدورة العلائقية . وكلما تجردت النية من اكتساب أو توحدت من اصطحاب أصبحت فاعلة في المسير الحق , وكذا العكس , فكلما كثرت علائقاً أو عوائقاً قَلّت تأثيراً وعُدمت تأسيساً .

   وتترتب تفاوتاً على حساب السبق الأول أو قُل القابلية المستفادة من السبق الأول { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ } [الواقعة : ٦٢] , فهذا المقام هو المؤثر الأول في صدور النوايا تمكيناً وضعفاً والداعي إلى الوحدة أو الإشراك في تأسيس كل بناء باطنياً أو ذا ظهور منه , وعليه أي السبق الأول يكون نزول درجة التجريد وتحصيل درجة الصفاء وذلك بالفيض الأول المترتب على ما تحقق للمرء من سابق حظه , ومن هذا المستوى يكون الانطلاق إلى درجات تمحيصها وتزكيتها أو دركات تكديرها وتلويثها.

   ويتولد من ذلك تبدل النية في كل ما يتحقق به الإنسان من منازل ومقامات وعوالم , فلا يتوهم المرء من أن النية دافع توقيفي ، بل ما يُعرف ذوقاً أنها كسائر الملكات والمرتكزات فهي في تصاعد مستمر في عالم التطهير وليس الرقي متوحداً بالتجاوز المقامي بل يتكامل كل شيءٍ من مجموع كيان الإنسان , ولهذا لا يصح عملياً دخول مقام معين بنية سابقة وذلك لتخلف المستوى المؤدي إلى التوقف في بوابة المقام .

   فتتدرج النية صعوداً في عالم الطهارة حتى تبلغ أقصاه وهو الطهورية فتكون طاهرة مطهرة لكل ما اتصل بها قرباً أو بعداً , لذلك نرى التدرج الذي يسوق به الحق أهله أو من أراد بسوط التجريد ويقودهم إليه بسلسلة الجذب , فمن الطمع بما في يديه إلى الطمع بيديه إلى الطمع فيه إلى التحقق به فتلك سلسلة جذبية تصاعدية تنزيلية أوجدها بمنن كرمه ، يتصاعد بها الإنسان إلى بلوغ رُتبه ماراً بمدارجها , مساوقة مع سوط التجريد الراغم للنفس على التجرد عما ارتكز لديها من بلوغ مآربها الأخروية المتصورة بالصورة الدنية , هذا إذا نظرنا بعين الرجوع ، أما بأختها فهنالك وجوبات لتنقية النية وتجريدها من الأضداد . فالبدء بما يتحصل بمنة المنان وفيض الرحمن وان كان قليلاً فليس بعد القليل إلا الكثير فلا تستهن بها , فيكون العمل بالقليل وهو الأصعب على النفس لأنه كما أسلفنا من أنها المحرك لمحرك الإنسان فكلما ضعفت تبعتها الإرادة ضعفاً فلا ترقى غالباً لإبراز مكنونها إلى ارض الأفعال إذا ضعفت داعية الإخراج ، لكن هاهنا لطيفة وهي فاعلية اسمه المعين فإنه يفعل حين النية على إرادة الفعل { وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } [النور : ١٥] فتكون وحدة الاستهداف هي الداعي لاستجابة أو انفعال اسمه المعين إذ وحُدَتِهما وهي الخير فكلاهما مبنيان على أساس واحد . فتتجسد النية وإن كانت ضعيفة في جسدٍ وان كان هزيلاً فهي الخطوة الأولى لاستجلاب القدرة . فلا تتأنى لفعل الطاعة بضعف النية لان النية مبتنية على الأولى ( ومن عمل بما يعلم أورثه الله علم ما لم يكن يعلم ) فتكون النية الأولى بفعليتها داعية إلى الأخرى , وليس ذلك بتحقق الفعل جزماً إنما النية تكفي إذ المدار على النوايا لا الأفعال ولكن أن يكون المانع عن الأفعال إلهي لا سُفلي ، وإلا فتسقط النية لأنه إن رأى تحقق ما أراد وتحصيل مبتغاه في النية حَجَبَ الفعل وثبتت المنزلة , وأما إن كانت النية لا يتم كمالها ولا تقوى داعيتها للاستنزال طُلِبَ الفعل ليكون مُمحِصاً للنية فتكتمل به . فيُستنزل بالنية الضعيفة نيةً اطهر وإرادةً أقوى تكون داعيةً دعاءَ حالٍ للفعل من عرصة الأفعال وتضعف بذلك ناحية أخرى وهي نية الاكتساب الدنيا فيبصر الإنسان ضعفاً في نية معاش شهواته فيبدأ المسير الحق وهو ( إن الدنيا والآخرة لا يجتمعان في قلب واحد إن دخلت الدنيا خرجت الآخرة وإن دخلت الآخرة خرجت الدنيا ) وهكذا المسير .

   فلا يجعل المرء عدم صفاء نيته في فعلٍ مقربٍ إلى الحق تعالى داعياً إلى التكاسل والخمول , نعم في مستويات عليا وعندما يهيَئُ الإنسان لذلك يطالَبُ بصدور فعله منزهُ النية من الاغيار وخالصاً له سبحانه . لكنه ألآن في طور التهيئة فلا تتوقع أن يصدر منك فعل طاهر خالص فان ذلك مطلباً بعيداً إنما نعمل بما أوتينا وندع الباقي إلى أن يحين اجله ( مع الطمع بالأكمل طبعاً ) .

   واعلم أن الحق تعالى يعلم علمَ إحاطة بمستواك ومستوى إرادتك ومرتبة نيتك ، ويطالبك بالتقرب إليه بما هو موجود فيك ألآن وليس في زمن آخر . فالتصاعد إليه جل اسمه بما بين يديك وما تملك هو غاية المراد وان كان ما لديك ناقصاً أو شائباً ، بل بما إن الكمال مطلق فالنقص مطلق فلا تمدنَّ عنقك إلى ما ليس لك إنما هو المفيض بما يريد عليك ، ولا يحجبنك نقصك عن سد نقصك ، إنما هو السعيُ بسعيه فلا نظر لمن بصر نتيجة أو مراد . نعم هنالك بعض المؤثرات على النية والتي من شأنها الحط من مستوى صفائها والتدرج لمساوقة الجوانب الأخرى , ومن ذلك التردد الذي يصاحب النية , وأبلغ تأثيره يكون عند نزول ماء السماء المزيل لنَجَس حجب الظلمة الغاشية على القلب. والواجب على الإنسان عند رؤية أو قل تذوق حال الطهارة ذاك أن يبادر إلى ما انزل الحق بمصاحبة العطاء المطهّر وأداء حق طاعته في فعله فلا يتردد في ذلك الفعل وليُقبِل متوكلاً على الحق سبحانه , بل حتى وان لم يصاحب ذلك الحال فعلاً مطلوباً تحققه فليجتهد بفعلٍ يناسب مستواه وليس دون ذلك , فيكون ذلك داعية لنزول الصفاء وزوال الكدر . بل إن التردد يضعف الهمة إلى أن يميتها لان النفس حاضرة { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } [آل عمران : ١٣٣].

   واعلم : إن منبع التردد هي النفس بما ترسل من رسل خواطرها إلى الإنسان ما يثبط همته ويلوث صفاء نيته , فلا يكون التردد إلا بوجود طرفٍ آخر ترتد إليه وهذا الطرف ليس جانب الحق قطعاً ، إنما هو جانب النفس , فتُخطر لك ما يميلك إلى جانب ظلمتها ويميلك عن جناب نوره جل جلاله , ومن خواطرها التكاسل وفعل الأولى وترك الأصغر لأجل الأكبر وهكذا . فمن تردد بين أمرين اكتسب منها ومن اكتسب منها فقد أشرك إشراك نية والحق لا يقبل الشراكة مهما كان مستوى الشريك .

   وكذلك من المؤثرات على النية تسافلاً هي الخواطر العقلية ، لا بما هي عقلية وإنما بسيطرة النفس وتسخيرها ، فكثيراً ما ينوي الإنسان فعل شيء ويكون حاجبه خاطراً عقلياً مدنساً لطهارة نيته ، من قبيل، إن الله تعالى لا يحتاج إلى أفعالك ، أو هذا الفعل داني المستوى ، أو انك تجاوزت هذا المستوى ، أو هذا ينافي الثوابت العقلية !! وهكذا , وهذه كلها قيود لكي لا ينزل نازل ولا يبدر بادر من عالم القلوب فيبقى الإنسان عقيل عقله لا يرقى إلى ما هو أسمى ، وهذا بما تسببهُ الخواطر العقلية القائمة على أسس نفسية , فتكون هذه الخواطر رادّة لداعي النية ماسكة عن التقدم والخروج عن مستوى عالمها .

   فالواجب أن ينظر الإنسان إلى نيته مجردة عن الخواطر اللاحقة وان يبادر إلى أفعال القربة دون رقي التردد إليه أو قل دون نزوله إلى التردد .

   ومن جانب آخر إذا ترقى الإنسان وبلغ الطهارة فسوف يكون لذلك دورٌ فعّالٌ في نيته فتكون نافذة في كل خاطر قلبي أو واردٍ ملكوتي , وتكون لها اليد الطولى في فاعلية ما يصدر منها وتأثيره الشامل لكل ما يدخل تحت ذلك المقام ، فيكون الانفعال بالنوايا وليس للأفعال حظ من الارتقاء إلى ذلك حيث المسير معنوي لا مادي إنما يكتسب المادي من أصله وهو الموجد لتلك الماديات , عندها تكون النوايا هي الأفعال . فكمال الأفعال من كمال نواياها ونقصها من نقصها ، ولأجل هذا نرى الرسول الأعظم يبين دور النوايا في التأسيس إذ يقول : ( إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئٍ ما نوى ) وفي موطن آخر يقول : ( نية الخير خير من عمله ونية الشر شر من عمله ) بل إن الحق تعالى رفعها إلى مستوى المحاسبة إذ قال جل ذكره : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } [البقرة : ٢٨٤] .

   من هنا وجب على كل إنسان أن ينظر نيته ويحاسب نفسه بها وعليها , فإنها هي الأساس والمؤسس لكل ما يصدر عن الإنسان فان صلح ما في قلبه صلح كل ما يصدر عنه وكل خارجٍ منه وكذا العكس , فلا يترقب الإنسان إن كانت نيته ملوثة أن يصدر منه طاهر. ومع ذلك فمن المحال وجود لوث مطلق إنما { فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } [الروم : ٣٠] .

والحمد لله أن رضيَ بالقليل وأعطى الجزيل )




جديد قسم : فيوضات من الباطن

  1. الحمد لله اني عشت في زمن تنفس به شيخ منتضر الخفاجي أسأل الله عز وجل أن يرزقني هذا الطريق لكي اقترب إلى الله عز وجل

    ردحذف