فيوضات من الباطن
الأسفار الأربعة في العرفان


الباب الثالث

الأسفار الأربعة في العرفان


   إن جوهر العرفان من حيث المسير هي الإسفار الأربعة التي يمر بها المريد في مسيره التكاملي. وهذه الأسفار هي المدار للوصول إلى المعرفة الحقة، فكل مـن سـلك الطـريق العرفـاني دخل هذه الأسفار. وهي تحوي على مقامات وأحوال كثـيرة يعرفهـا الإنسان عنـد دخولـه فيهـا.

   أما تسميتها بالأسفار فلأنهـا انتقـالات معنويـة مـن البقـاء الوهمي بعد الفناء الـوهمي إلى الفناء ومنـه إلى البقـاء فـي الحـق { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [البقرة : ٢٨] بالرجوع الكـوني، فهي أسفار في دائرة الوجود التي منه إليه، ومنه بالعُلقة المسـتفادة مـن { كُنْ} [البقرة : ١١٧]، واليـه مـن حـيث الرجوع الكوني والتجرد من الغواشي الظلمانيـة المتراكمـة مـن الـذات السفلية ومن بقايا الغبـار القـديم، والثاني الحاصل من الاكتساب الآخر بعد النزول عند كمـال الأول، فبهـا يكـون { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [فصلت : ٢١] بـالرجوع المرحلي.

   وهذا الرجـوع هـو رجـوع مـن الأسفار في الأسفار إذ أن الرجوع يكون بعد الوصول ولكن بصورة تختلف عن الأولى، ومثله في قولـه تعالى : { إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فالرجوع بعد حصول الثمرة حيث إن إنـزال المـاء لا يكون إلا بطلب سواء كان بالطلب الفعلي أي المتحقق بالفعل الموجـب لنزوله، أو بالطلب الاستعدادي. والاسـتعداد لتقبـل المـاء بمـا أن الطلـب ألاستعدادي هو تَوسع في الوعـاء الإنساني المخـتص بهذا الماء عندها يكون نزول الماء.

   وهذه الأسفار تحتاج إلى الاستعداد المؤهل للمسير فيها ولكـل سفرٍ استعداده الخاص به. والاستعداد هنا لعدم التوقف عند وجـود المانع الاحتياجي للزاد المعنوي، فكل من أراد الله بالمعنى الحـقيقي سـافر إليه. والسفر إليه داخلي حيث التجلي أكبر ولأنه أقرب إليك من حبل الوريد صار السفر من القرب الأول، ولكن بُعده لا متناهي فيكون قريب بعيد إلا أن السفر إليه من حيث هو بعيد لا من حيث هو قريب لان قربه مطلق فيوجب التوقف بل عدم المسير. أما من حيث البعد فيكون الدخول إليه منه ولذلك ( ولم تجعل للخلق طريقاً إلى معرفتك إلا بالعجز عن معرفتك ) كما يقول الإمام زين العابدين ( ع ). فالعجز هو دخول في القدرة !! أي من قدّم العجز الحقيقي لله أُعطي القدرة ( هذه من الفوائد الجليلة ) فلا وصول للـه إلا باللـه، بما انه ( لا يعرف الحق إلا الحق ) وكذلك : ( اعرفوا الله بالله، والرسول بالرسالة، وأولي الأمر بالأمر بالمعروف والعدل والإحسان ) كما قال الأمير ( ع ) وكذلك قوله ( ع ) : ( يا من دلَّ على ذاته بذاته ).

   وتبدأ هذه الأسفار بالسـفر الأول : وهـو مـن الخلق إلى الحق. وهذا السفر هو انتقال من الإنسانية بـالمعنى الخـاص أي مـن الأفعال والصفـات الإنسانية الظلمانية في المسـتوى الأول والنورانية في المستوى الآخر، هذا بالنظرة الوهمية حـيث أن هذه الصفات تكون ظلمانية لأنها مكتسبة من البرازخ السفلى التـي نتجـت مـن الهبوط الأول سواء كانت فعلية أم استعدادية وهذا الهبـوط هـو إرادي حـيث إن في الهبوط الأول هبوطين.

   الأول : هبوط من المنزلة، وذلك لان هذه بدائية ولم يكن لها ذلك الاستحقاق الناتج عن فعل معين.

   أما الثاني : فهو هبوط لإتمام الكمال وهو شبيه بالسفر الرابع،  فإن الإنسان في الهبوط يكتسب من العالم السفلي بعض الأفعال أو الصفات، أما اكتسـاب معنوي أو اكتساب مادي والتي تكون إما ذات تأثير تصـاعدي أو تنـازلي لـذلك وجِـودَ العهـد القـديم  وهو ما عاهد البشر عليه الله ، أي إتمام للكمال المواجه للإنسان في طريقه اللاإرادي في الأصل.

   وهذا السفر هو ليس انطلاقاً إلى الحـق بـالمعنى المعـبر عنه بالسفر بل تهيُأ لسفر اكبر منه أي هو اسـتعداد، لأنه سفر تجرد، بمعنى أن الإنسان يسافر في ذاتـه فيجردهـا مـن كـل العوالق التي تحجبه عن مطلبه والتي وجودها يحجـب الإنسان عن السفر نفسه في مراحله، هذا بالنظر إلى جـانب مـن جـوانب السـفر وإلا فهو أوسع من ذلك ولا يقتصر على التجـرد فقط، ولكن بحثنا هو تعريف.

وأصول هذا التجرد هو من الحجب الثلاثة :

   أولهـا : هو حجاب الأفعال الموجب لعدم وصول الإنسان إلى جنة الأفعال الأولى، ومؤداه رؤية الفعل أي كل الأفعال منفصلة عن العلقة الراسـبة فيهـا الناتجة عن المشيئة الإلهية، ورؤيته بالتجريد العكسـي له سببه هو حجابية الفعل عن رؤية الفعل الحقيقي وفاعله أو أصل الفعـل الموجود فيه، فإن وجود الفعل الإنساني بالرؤيا يحجب عن رؤية الفعـل الإلهي لأنه يقول جل ذكره : { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }  [التكوير : ٢٩] أي إن المشـيئة الإلهية ملازمة للمشيئة الإنسانية في كل مراتبها وكذلك : { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } [النساء : ٧٨]. لكن هل هـذه المشـيئة تسـبق المشـيئة الإنسانية أم تلازمها في آن واحـد ؟ أم هـي موجـودة فيهـا ؟ وهل تشابهها أو تخالفها أو غير ذلك ؟ فهذا له محل آخر.

   فإذا خرق الإنسان الحجاب وهو الأول في السفر الأول عرف حقيقة الفعل الإنساني والفعـل الإلهي بالمعرفـة مـن الفعل الواحد، وعرف الفعل الحـقيقي ومـدى تعلـق المشيئة به نفسه. وقولي انه الأول من جهة الأصل وإلا فمئات الحجب قبله.  

   أما التجرد من الحجاب الثـاني : وهـو تجـرد من الأصل لان الفروع توصل إلى الأصول عند المسير التصاعدي، فعندها يصل الإنسان إلى الحجاب الثاني وهو اكبر من الأول لكنـه ابسط إذ أن قيمومة الأول من الثاني وصورة الثاني معكوسة في الأول وعـادة الصورة تكون قريبة من الواقع ولا أقول شبيهة بالواقع فيكون ذلك مساعد على خرق الحجاب الثاني. وعند خرق هذا الحجاب يكشف للإنسان دخـول الصفـات الوهميـة لسـاحة الصفات المؤثرة في الواقع الذاتي للإنسان فيعرف الإنسان الصفات الموجودة في برزخ الدنيا ومنها تكون معرفة الصفـات الإنسانية والصفـات الإلهية والرابطة الكونية بين الصفات الموجودة في الدنيا ورجوعها إلى الصفات الحق، لان الوجود قائم بالرحمن وهو في الوجود فتكون الإحاطـة، ومنهـا تكـون إحاطـة الصفات بالصفات، وكذلك معرفة الصفات الغريبة بالنظرة الظاهريـة الموجودة في النفس الإنسانية فعندها يمـيز الإنسان بين كلٍ من هذه الصفات، ويكتسب معرفة طريق اكتساب الصفات النفسـية والعقلية فتكون من خلالها القوة الباطنية للإنسان.

   وفي هذا السـفر يقيـم المريد فـي مقامـات عديدة يكتسب من خلالها المعرفة اليقينيـة بالمعايشة الحقيقية وباللبث المعقول في المقام الذي له اسـتحقاق الدخـول فيه فيتولد لديه استعداد ِلتَقبُل الأحوال على حسب درجة المقام. ومنه الخروج من المقام حيث الخروج هو أيضاً تجرد لان التردد فيه يوجب البعد عن الغاية كما يقول الإمام الحسين  ( ع ) في دعاء عرفة : ( الهي ترددي في الآثار يوجب بعد المزار )، فللتجاوز يجب خرق الحجاب بالاستعداد المطلوب حتى يكون الوصول للدرجة المبتغاة لمن دخل ذاك المقام.

    وهذا السفر بمنظار آخر هو سفر من النفس إلى الروح أي خروج من مقام النفس لدخول مقـام الروح الموصل إلى الغاية المطلوبة، فينطلق الإنسان إلى عالم الروح مع بقاء النفس في عالمها ولكن بالمخالفات والمجاهدات والرياضات وغيرها من تكاليف عالم النفس تقيّد النفس لتنطلق الروح فتبقى النفس بعالمهـا والنفس لا تـرتقي أعلى من عالمها المحدود وهو عالم وهمـي، وعـالم الروح عالم حقيقي فليس للنفس حق في الوصول إلى ذلك العـالم.

   وفي هذا السفر أيضاً  يكون مقام القلب وهو عالم واسع ولا يسعنا الكلام عنه الآن لكن الغاية الكمالية فيه تكمن بطـرح القلـب بعواطفه بعد اخذ الفائدة منه فيستعد المريد لدخول عـالم العقـول وهو في نفس السفر وآخر مراحله، وفيه يصل الإنسان إلى نهايـة العقـل واعنـي النهاية الكمالية العقلية لذاته. عندها تتكون للمريد قاعدة أساسية في حين أن النفس تحول دون قيام أي قاعدة ولو وهمية بالمعنى العام من خلال الأحوال والخواطر النفسية والعقلية المستفاد منها تنقل الإنسان من حال لأخر دون الوقوف على الواقع النفسي لكن تعرف الأشياء بأضدادها، والقاعدة مرتكز ثبوتي يسهّل معرفة مركز النفس وصدور الحجب.

   نعـم توجـد هناك قواعد جزئية أي اعتقادات وهمية أو حقيقية مُنزلـة.

   ومن أصول هذا السفر والمراحل الأولى منـه يكـون العمـل على عكس الرغبات النفسية مما يؤدي إلى رؤيـة الحجـب النفسية ومعرفة مدى سيطرة النفس على الإنسان.

   هذا مختصر عن السـفر الأول، لكن المعرفة العقلية ليست كالمعايشة الذوقية، بل تحجـب عـنها .

أما السـفر الثـاني :  وهـو  أهم الأسفار الأربعة وأصعبها، لان الثلاثة كلها تصب في هذا السفر واليه المنتهى حيث انه سـفر لا متنـاهي لأنه مـن الحـق إلى الحق وبما انه لا متناهي (سبحانه) استلزم لا نهائية السفر.

   وهو سفر بالروح المجردة عن النفس والقلب والعقل لعدم تحمل كلٌ من هذه الجوانب الثلاثة ( ولو تقدمت أنملة لاحترقت ) وهو منتهى العقول فعندها تـتوقف عقـول العقـلاء فـلا يصـل إلى ذلك إلا من خلع النعلين وطلّق الـدانيتين واحـتمل الأمرين، فهو سفر بذات الإنسان الصادرة عن أمر الحـق، حيث لا يصل لأمر ربي إلا ما كان من أمر ربي. وهو سفر معنوي محض. فالسـفر الأول هو استعداد لدخول هذا السفر أي إن كل المقامات والأحوال والتجردات وغيرها هي لأجل أن تعطي الاستعداد الكافي للمسير في هذا السفر، وكذلك فإن السفر الثالث والسفر الـرابع ثمرتهمـا في السفر الثاني من حيث المصب إذ هو الكمال. لـذلك رأينا بعض العارفين لم يدخلوا السفر الرابع لأنهم يبتغـون المسـير دون التَماس مع المستويات الدنيا من الخلق وتجنباً لمصاعب كثيرةٍ وثمرةٍ قليلة، نعم لا باس بذلك سابقا، أما الآن فلا.

   وتكـون فـي السـفر الثـاني المعرفة الحقيقيـة، وهو مبدأ الكمال.

   والسفر الثاني هو أول التوحيـد كما قـال الأمير ( ع ) : ( أول الـدين معرفته ) وبما أن السفر الثاني يبدأ بمعرفـة الحـق، يكون أول الدين وبداية التوحيد فقول ( لا الـه إلا الله ) يتحقق حقاً وشهوداً عند دخول السفر الثاني وكما أن في الظاهر من أراد التوحيد وجب عليه الإقلاع عن الذنوب والتوبة الموجبـة لمحو الذنوب السالفة،  فكذلك هو السفر الأول ثم يكون دخول الإسلام أي دخول السفر الثاني واعني به الفناء فيعرف العارف الحق مـن حـيث هـو لا من حيث اتصافه بالصفات أو غيرها. إذ أن معرفة ما دون الـذات تكـون في الأول. فيَصل الإنسان إلى المعارف الجليلة والكشوفات الحقيقية والتجليات الحقية. وتتجرد الصفات انمحاقاً ( كمال الإخلاص له نفـي الصفـات عنه ) فيرى بغير ما يرى وغير ما يرى ويسمع بغير ما يسمع وغير ما يسمع ويحس بغير ما يحس وغير ما يحس عندها ينقطع الكلام وتسقط الإشارة وتمحق الأوهام.

   فيُكشـف للعـارف إسرار الإلوهية بالكشوفات الحقيقية، فيلوح له نور العظمـة بالمشاهدة المعنويـة ثم إلى معدن العظمة ثم الانصهار الكلي، ويبقـى رسم العبودية بالصورة الشـكلية الوهميـة، فيسـير العـارف في الحق إلى الحق، وذلك المسير لا متناهي. وهذا كل ما نستطيع كشفه عن السفر الثاني.
  
   أما السـفر الثـالث : فهـو سفر من الحق إلى الخلق. فعند وصول الإنسان إلى حضرة القـدس ومعدن العظمة يعـود إلى الخلق بالوجود الحقاني الأول وقد تزود بزاد الحضرة على قدر ما نزل من أجله، فيختلف عنه قبـل ذلك الحـين فـيرى الأشياء بالرؤيا الحقة، وذلك لانفتاح الحواس الباطنيـة فيكون رجوعه أحياناً برسالة من الحق إلى الخلق إذا كان مـن أهلها أو إلى مجموعة معينة. أو يُكلَف بشيء ما فتكون له نظرتان بهمـا يعـرف الظواهـر والبـواطن ولكـن النظـرة اليسرى تكون نظرة ظاهرية دون الاعتقاد، إذ أن الاعتقاد باليسرى يحجب عن اليمنى فيدخل حـينئذ بـالكفر الحـقيقي، والمسـاواة إشـراك فيكـون ظاهرهُ اليسار وباطنـه اليميـن حيث الجمع واجب. والرجـوع هذا لا يعني قطع المسير في السفر الثاني إنما يسـير فـي الخـطين، أما كيفيـة ذلـك فهذا من الأسرار التي لا يتحملها المقام ولكن السمع والشهادة يوصلان إلى ذلك. وهنا يستخدم العـارف عقلـه حـيث خروج الأوهام وصفاء العقل فيكون حاكم بما حكم الحق.

   أما السفر الرابع : وهو الـرابع مـن البـاطن الأول حيث يتصل بالسفر الثالث فيكون من الخلق إلى الخلق وهو سفر مُتعب حيث التداخل في جزيئات الخلق فيكتشف بها معـارف الخـلق وحقـائق الموجـودات بالاسـتقلالية والترابط، والنظام الكـوني، والتأثير والتأثر وعلاقة البُعد بالقرب ويكشف كل الجزيئات الكونيـة سـواء الظاهريـة الباطنية أو الظاهرية الوهمية ولكن كلٌ عـلى حسـب اسـتعداده، ففيها يُبلّغ ما أُنزل إليه من ربه وهناك تكون الإحاطة الكليـة بـالنفس ومعرفـة الجزيئـات النفسية فيكون إنسانا ظـاهريا أي يدخل بالنظام الظاهري ويتداخـل بـالعلوم الأرضية ولكن بمنظار آخر حيث وجود الأسس الواقعيـة. فهذه إشارة من قرب البُعد عن أصول الباطن الأول فتأمل في ذلك.             

( وسبحان مَن لا يدرك مقامه العارفون )






جديد قسم : فيوضات من الباطن

  1. يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر

    ردحذف
  2. الهي اسألك بأنفاس علي بن أبي طالب عليه السلام ان تؤفقني لهذا الطريق

    ردحذف