فيوضات من الباطن
المعجزة


الباب الثاني والعشرون
المعجزة

   هي فعل إلهي يخرق النظام الظاهري لا كل الأنظمة . وبحسب تدرج الأنظمة فإنه خارق ومخالف للنظام الأول لكنه داخل النظام الثاني ، فإذن هي معجزة في نظر الإنسان الكائن في نظام الدنيا ، أما من كان في عالم صدور الإعجاز واعني عالم الجبروت فلا يعتبر هذه الأفعال معاجز نسبة إلى عالمها ، أنما ما يصدر من عالم اللاهوت يكون بنظره معجزاً .

   وكل فعلٍ يخرق هذا النظام لمن هو فيه بفعل وبدون استعداد مسبق يعتبر إعجازا لدى العقل البشري المتطبع على نظام الأسباب . أما الناظر من وراء التوحيد الساذج فلا يرى أعجازا ، إنما يرى كل الأفعال الإلهية واحدة صادرة من مقام واحد ، وليس من كبير وصغير . وكل فعل من أفعال الحق في مرحلة متأخرة بعد التحقيق هو فوق مستوى العقل ، هذا باطناً .

   والفرق بين الإعجاز وغيره من الأفعال الإلهية ليس في الباطن إنما في ظاهر الباطن ، حيث يكون من المبدأ أي مبدأ صدور الفعل ، فمثلا التوراة كتاب نازل من الحق تعالى على نبيه موسى ) ع ( ، والقرآن كذلك كتاب نزل من الحق على نبيه محمد ) ص ( . فلماذا كان القـرآن إعجازاً والتوراة ليس بإعجاز ولا أعني من جهة الأثر ؟ . وأصل ذلك يعود  لأمرين :

   الأول : جهة الصدور ، واعني بالصدور صدور الفعل من جهة الدرجة الإلهية بما أنه سبحانه { رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ } [غافر : ١٥]. فصدور التوراة كان من جهة الملكوت وصدور القرآن من جهة الجبروت .

   الأمر الثاني : هو التنزيل ، فالتوراة كانت منزّلة على قدر المستوى البشري بكل ما حوته ، أي بكل جوانبها . أما القرآن فكان بعض جوانبه منزّل وبعضها لم ينزّل إلى مستوى البشرية العام ، بل حافظ على مستوى نزوله ولهذا كان إعجازاً . فالإحكام الشرعية منزّلة على مستوى العباد ، أما أسلوب الصياغة القرآنية فهو أسلوب أعلى من قدرة البشر ، أي أنه لم ينزّل إلى مستواهم إنما حافظ على المستوى الذي نزل منه وهو المستوى الجبروتي .

   ولأن المعجزة نازلة من العالم المسيطر على عالم المُلك ، فتكون أمراً حقيقياً في عالم وهمي ، أي تخرق الأفعال والصفات الوهمية بأمر حقيقي فيكون ذا تأثير على النفس ، بل أحياناً يكسر القيود النفسية ويُسقط الإرادة النفسية سواء بالجمع أم التفصيل .

   ولأنها فعل يكسر قيد السيطرة النفسية فسيوجب بعد وقوعه انصياع النفس وإقرارها بصدق الفعل الموصل إلى يقين عيني يوجب الإيمان بالأمر المتلازم مع المعجزة ، إلا أن تكون النفس معاندة .

   واستخدمها الحق في الأمور الكبيرة التي يستوجب الإيمان بها والتي تكون قاعدة أساسية أو معتقد يكون باباً من أبواب الدخول للدين بعد الانحصار بها .

   وكذلك المعجزة هي آخر أسلوب يستخدمه الحق مع عباده العاصين. ولكن ليس تأثير المعجزة على كل النفوس لأن بعض النفوس لها من السيطرة المتولدة من العناد كما أسلفنا بحيث لا يكون للمعجزة أي تأثير عليها . ولم يستخدم الحق المعجزات كثيراً ، لأن تكرار المعجزة يجعل منها أمراً اعتيادياً وتزول منه قوة الوقع وتعتاد عليه النفس ، كما هو حاصل الآن مع المعجزات الخاصة حيث يعيشها الإنسان يوميا لكن الاستمرار عليها جعلها ضمن النظام الطبيعي وسُلبت صورة الإعجاز عنها وهي ليست من نظام الدنيا ، فلفّق لها الإنسان سبباً وجعلها ضمن النظام .

   ويكون الفعل ألإعجازي عادةً لضعفاء اليقين أو الإرادة ، حيث يعطيهم حافزا للإقبال على الطريق الحق ، لذلك رأينا أن الرسول الأعظم لم يستخدم أي معجزة مع أصحابه المقربين إنما كانت المعجزة للعاصين ولضعفاء اليقين .

   وتأتي المعجزة عموماً على صورتين :

   الأولى : صورة الجذب : والتي تكون صورة المعجزة فيه من نفس الإطار الواقعة فيه ، أي مشابهة لأفعال العالم الوهمي وذلك لأجل الجذب النفسي إذ يكون للشبيه أكثر مما هو للغريب ، فيما إذا كان المراد من الإعجاز هو الجذب كمعجزة إحياء الموتى أو الناقة أو الشفاء من الأمراض وغيرها مما ترغب فيه النفوس وهو احد أساليب الجذب الإلهي .

   الثانية : صورة الردع : والتي تحمل مرتبة من مراتب القهر النفسي ، كمعجزة خلق الطير أو شق القمر فإنها من المعجزات التي توصل النفس إلى الإحساس بالقصور والبساطة والانقياد لما هو أعظم منها .   

   وطبيعة نظام الإعجاز هو نظام تنازلي وليس تصاعدياً أعني الخاص بالمعجزة لا مَن تقوم على يده ، حيث كمال الإعجاز هو زوال هذا الفعل ، وزواله يعني تعمق الاستعداد العقلي والإيمان القلبي وهذا ما أراده الحق لعباده . وبنهايته يكون المسير إلى عالـمه ، أي العالم الذي صدرت منه المعجزات . لذلك نرى التفاوت بين معاجز الأنبياء واضحا من ناحية العدد والنوع ، فترى المعجزات التي جرت على يد عيسى ) ع ( أو موسى ) ع هي أكثر من معجزات الرسول الأعظم وكذلك كانت تطغى عليها السمة المادية . أما في زمن الرسول فقد قلّتْ المعاجز المادية وادخل الحق الإعجاز المعنوي ، والذي هو اقرب إلى العقول من الإعجاز المادي .

   هذا ، وإن نظام الإعجاز هو على حسب الرُقي الإنساني فان النفوس القديمة كانت أكثر دنواً وبساطة ، لذلك احتاجت إلى معجزات مادية ، أما في زمن الرسول فقد ارتقت النفوس واستحقت دخول المعاجز المعنوية . والهدف الأساسي من كل ذلك هو إيصال البشرية إلى الإيمان بالإرادة الخالصة دون أي إعجاز سواء كان مادياً أو معنوياً . نعم جاء بعض الأنبياء بدون إعجاز وان كانوا لم يوصلوا الإنسانية إلى مراتب معتد بها ولكنهم طرقوا باب زوال الإعجاز لكي تألفه النفوس وهذا نوع من أنواع ترقية العقول .

   وتجري المعجزات عادة على أيدي الأنبياء أو من هم أعلى من ذلـك . ولكن يجري على يد من هم في أدنى من مرتبة النبوة كرامات وليست معجزات ، وهي شبيهة بالمعجزة من حيث الظاهر ولكن هنالك فروقاً عديدة بينهما من حيث الباطن فمنها :

   أولاً : إن المعجزة تكون بإرادة الحق أي إن الحق لا يعطي معجزة إلا عند الاحتياج الحقيقي لها ، أما الكرامة فليست كذلك إنما تكون من الحق على حسب إرادة الإنسان .

   ثانياً : إن المعجزات تكون على أيدي أصحاب الرسالات والأنبياء ، أما الكرامة فتجري على أيدي الصالحين وغير الصالحين ، لأنه هو جزاء أو جواب بسؤال العبد فكل من أراد الكرامة وسعى لها سعيها أعطاه الحق ذلك .

   ثالثاً : إن المعجزة تكون على قدر استعداد البشرية ، أما الكرامة فتكون على قدر استحقاق طالبها ، وأحياناً تكون الكرامة من باب الفتنة وليست المعجزة كذلك .

   أما نسبة المعجز للعقل فهي فوق مستوى العقل النفسي . أما العقل المعنوي ففيه لا تُعتبر دليلاً لبلوغ الإيمان بالشيء الملازم لها ، لأن المعجزة من مستويات النفس أي إن تأثيرها نفسي وعلى المراتب الأولى من العقل . لذلك نرى إن من خصوصيات الإمام الحجة ) ع لا يأتي بمعجزة إنما كل أفعاله داخل الإطار العقلي الطبيعي فلا يخرق النظام الطبيعي ، لأن العقول في عصره أو قبله بقليل تكون ذات استعداد لتقبّل الأفكار الواقعية الحقيقية ولا اعني بالواقعية المادية ، وتصبح المعجزة شيئاً بسيطاً تجاه الفعل العقلي وهذا إنما يدل على عظمة الإمام ) ع  لأنه هو الذي يوصل البشرية لذلك في زمن غيبته . فعندها يكون الإيمان ذاتياً خالصاً دون وجود المحفز الخارجي .

   وليت شعري هل هنالك إعجاز أعظم من إيصال البشرية إلى العصمة بدون أعجاز!! بلى هو الإعجاز الحقيقي .

( وسبحان من جعل خلقه من لطائف أسراره )





جديد قسم : فيوضات من الباطن

إرسال تعليق