ومضات تربوية
الوقت

الوقت

   عندما تريد أن تحاسب من هو تحت رعايتك، فما هو الموضوع الأهم الذي يستحق أن يُقدَم حين المحاسبة؟ ربما يقال هي الأموال، أو قد تكون هي دراسته لأن فيها مستقبل الفرد، أو ربما عبادته، وقد تكون نظافته، نعم كل هذه الأمور مهمة، لكن بمقدور الإنسان تلافي ما يحصل بها من نقص أو تقصير.
   إنما الأهم والذي لا يلام الفرد أن حاسب عليه نفسه أو ابنه أو صديقه أو أي فرد آخر، هو الوقت! لان كل ما ذكرنا من أمور مهمة يمكن تداركها أو الاستغناء عنها ببدائل أخر، لكن الوقت إن فات يستحيل تداركه ولا يوجد له بديل.
   إن الأساس الأول الذي تقوم وتتقوم به حياة كل حي غير خالد هو الوقت، وما لا تجد له الوقت فقد غادر حياتك؛ لذلك وجب أن يُقدم هذا العنصر على كل عناصر حياتنا بالاهتمام والمراقبة والمحاسبة، إذ ليس بيدك ناصيته أما أن تستغله أو يغادر، وكلما غادر منه جزء أخذ منك جزءاً، فالتعامل معه بدقة وحذر هي طريقة العقلاء وهي الحل الوحيد لكسب مودة هذا الضيف الكريم.
   فإن كانت هنالك خسارة حقيقية ينبغي أن يُفجع بها العاقل هي خسارة الوقت؛ لأنه الظرف الأوحد لتحقيق كل الأعمال، لكنا ترانا نتفجع إن خسرنا ديناراً ولا نبالي إن أضعنا يوماً من عمرنا والذي يستطيع العاقل أن يجعل منه عدة دنانير سواء أكانت بعملة أهل الدنيا أو بعملة أهل الآخرة.
   إن احترام الوقت ليس هو الالتزام بالمواعيد، وإنما احترامه إعطاءه حقه ووضعه في الرتبة التي يستحقها، في رتبة من أنت في احتياج دائم إليه، في رتبة من هو أقوى منك وليس لك السلطة عليه.

   ولكي يتجنب الإنسان خسارة هذا الكنز ينبغي عليه أن يطهر ساحة وقته من كل سارق ودخيل.
   يجب على كل عاقلٍ حريص عادل أن يرتب وقته على حساب أولوياته، كما يرتب حاجياته، وان يستفيد من كل جزء من أجزاءه بل لا يدع جزءاً يفوت دون أن يستخلص منه فائدته، كل ساعة تفوتك دون أن تحقق منها شيئاً فأنت ميت في تلك الساعة لان الموت هو انقطاع العمل، ومن مات انقطع عمله.
   ولأجل تجنب خسران هذا النعمة الكبيرة ينبغي على العاقل أمور:
الأمر الأول: هو ترتيب وتقسيم الوقت على حسب الأهم ثم المهم، ويعطي كل موضوع أو عمل استحقاقه من الوقت، فإن كان استحقاقه نصف ساعة فمن الغبن والجهل أن تعطيه نصف ساعة وخمسة دقائق؛ لان رب الوقت سيحاسبك على الدقيقة الواحدة أين وضعتها أو ضيعتها.
   يقول أمير المؤمنين(ع): (أن عمرك عدد أنفاسك وعليها رقيب يحصيها) [عيون الحكم ص 149].
   ويقدم في هذا الترتيب صاحب الوقت جل جلاله لأنه لم يهبك هذا الوقت إلا لأجل أن تجعله مطيتك نحو غاية هو مريدها، فوجب أن يخصص الفرد قطعة من وقته لربه سبحانه تكون خالصة له من شائبة الشريك ومن نجاسة الدخيل فيتجرد في هذا الوقت من كل ما سوى الله تعالى.
   ويعتبر هذا الوقت هو أقدس أوقاته بل هو سبب وجوده في عالم الزمان والمكان، ولا يبدله بملأ الأرض ذهباً، مهما كان مقدار هذا الوقت ولو كان خمسة دقائق.
   والمفروض أن هذا هو أهم جانب في حياة كل إنسان مهما كان معتقده ومشربه.
    بعد ذلك ينزل إلى أعماله الأدنى مرتبة والتي أهمها تقويم شخصيته الأخروية والدنيوية، فيحدد له وقتاً لتهذيب وتطوير شخصيته الاخروية، والذي من خلاله يحدد ملامح شخصيته في العالم الآخر، ثم يحدد وقتاً لترتيب شخصيته الدنيوية من كل جهاتها ثقافة وفكراً وأدباً وغيرها.
   ثم يحدد وقتاً يقضيه في خدمة عامة العباد بما يناسب حاله. وكذا يحدد وقتاً يقضيه مع أهل بيته ينظر في حوائجهم وما يصلح به حالهم.

الأمر الثاني: تطهير ساحة الوقت من كل سارقٍ ودخيل. وذلك أن سراق الوقت أكثر من سراق المال، فإن الكثير من وقتنا ضائع في ما ليس فيه فائدة دنيوية أو أخروية، فما يسرقه التلفاز والانترنيت أو الشريط الإخباري والالعاب وما شاكل ذلك، لهو الجزء الأكبر من وقتنا اليومي وهكذا في اليوم الآخر ونحن لا نبالي بهذا السارق الذكي.
   فوجب على من يحترم وقته أن يطهّره من فضول الأفعال والأقوال وان يقطع كل فعل ليس فيه منفعة حقيقية يريد أن يقتحم عليه ساحة وقته بل ساحة قدسه، وهذا يحتاج إلى محاسبة وقتية، أن نحاسب أنفسنا على وقتنا قبل أن يحاسبنا غيرنا، يقول الرسول الأعظم(ص): (كن على عمرك أشح منك على درهمك ودنيارك) [مكارم الاخلاق ص 448].
الأمر الثالث: ينبغي على كل من هو مقيد بالوقت أن يحذر من جعل وقته عدواً يسلطه على عنقه، وذلك بان يقضي لحظاته بما يضمن له ذل الدنيا وخزي الآخرة، فيجعل من وقته سبباً لخسارة نفسه، بل يجب أن تجعل منه صديقاً معيناً لك على تحقيق خير الدنيا وخير الآخرة. يقول الرسول الأعظم(ص): (إنه يفتح للعبد يوم القيامة على كل يوم من أيام عمره أربع وعشرون خزانة عدد ساعات الليل والنهار. فخزانة يجدها مملوءة نوراً وسروراً، فيناله عند مشاهدتها من الفرح والسرور ما لو وزع على أهل النار لأدهشهم عن الإحساس بألم النار، وهي الساعة التي أطاع فيها ربه، ثم يفتح له خزانة أخرى فيراها مظلمة منتنة مفزعة، فيناله منها عند مشاهدتها من الفزع والجزع ما لو قُسّم على أهل الجنة لنغص عليهم نعيمها، وهي الساعة التي عصى فيها ربه! ثم يفتح له خزانة أخرى فيراها خالية ليس فيها ما يسره ولا يسوؤه، وهي الساعة التي نام فيها، أو اشتغل فيها بشيء من مباحات الدنيا، فيناله من الغبن والأسف على فواتها حيث كان متمكناً من أن يملأها حسنات، ما لا يوصف. ومن هذا قوله تعالى: (ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ)[سورة التغابن –اية 9] ) [ بحار الانوار ج 7-ص 262].
والحمد لله وحده.



جديد قسم : ومضات تربوية

إرسال تعليق