التلازم التكاملي بين الأخلاق والعرفان


فيوضات من الباطن
التلازم التكاملي بين الأخلاق والعرفان

الباب الرابع
التلازم التكاملي بين الأخلاق والعرفان

   بمـا أن الإسلام ينتسـب إلى الكمـال المطلـق من حيث الصلة الكماليـة للطـريق اللانهائي وجـب أن يكـون لا متناهياً عند النظـر إليه حين الانضمام إلى النظام العام، ففي عدم وجود الإسلام يكون فصلاً في خطي الكمال العام مما يجعل الكمال متوقفاً وهذا ما يخالف الغاية. فيكون بالنظر لموقعه وعلاقته الإنضمامية لا متناهياً حيث الاعتماد والارتكاز عليه. والشيء الآخر أن الكمـال الخـاص هـو مـن الإسلام وهذا الكمال مطلق والإسلام اكتسـب صفـة النسـبة إلى الحـق، وبما انه مطلق وجب أن تكون النسـبة مطلقـة حيث لا يكون وصولاً لللانهائي إلا في اللانهائي فأصبحت هـذه النسـبة مطلقـة مع ملاحظة الأحوال والمنازل،  فهذه هي حقيقة الإسلام. فكان أول دين هو الإسلام وآخر دين هو الإسلام، والاخـتلاف لابد منه، حيث لا توقف في طريق الكمال ( لان عدم التحول والتخالف يوجب التوقف ). أما فـي الظاهري فالعكس وهذا بعيد عن الواقع لعدة وجوه معنوية نذكر منها :

    أولا : لو كانت النسبة للكمال المطلق متناهية للزم تنـاهي المطلق، حيث نهائية الطريق أو حجابية أصحاب الكمال عـن ذلـك وهذا ينافي إرادة الحق حيث { وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ } [الأنفال : ٦٧].

    ثانيـا : لـو كـان العكس لسقطت ( لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ) فيستلزم سقوط الصفات على غير المعنى المطلوب. لكن يجـوز أن يكـون بمحـو الذات السفلى في الكمال فعندها تقع النسبة المطلوبة. لكن ( وياللاسف ) نجد الإنسان المسلم اقتصر على ما تبغي نفسه من دينه ( وغير المسلم لا يعلوه حظاً )، أي لـم يتجـاوز حـدود النفس، لان النفس تبغـي بقـاء الـذات النفسـية بالقوة الوهمية لكي تصل إلى درجة كمالها في الخط التنـازلي. ولا يتجـاوز الإنسان ذلـك إلا باقتحام العقبـة { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣)[البلد : ١٢ - ١٣] إي بفك الروح من قيـود النفس ولا يكون ذلـك إلا بصـيرورة النسبة مطلقة، المؤدي إلى العمل حيث الأساس هو الاعتقاد وإلا فليس من قيام للفعلية الحقة دون الركيزة المعنوية. فعلى ذلك إنَّ من دخل الإسلام عليه أن يعرف ظواهره وبواطنه والمتقدم منه يحجب عن المتأخر وذلك في المكث فيـه أكثر مـن الاسـتحقاق، فيكـون البقـاء فـي أي مقـام من المقامات من الحجب، نورانية كانت أو ظلمانية، إذ الحكمة من الدخول في أي عـالم أو مقـام هو من أجل أخذ الفائدة منه ثم تركه. هذا لمـن أراد البقـاء.

    فطـريق الكمـال هـو مستويات الإسلام سواء الكمـال التصـاعدي أم التنـازلي، لان التنازلي هو المسير في الاتجاه المعاكس للإسلام فكان هذا الخط من مستويات الإسلام حيث لـولا الإسلام لمـا عُـرف أو كـان هذا الخط كما هو الآن. فأُولى مراحـل الإسلام هـي الشـريعة الظاهرية المعروفة وهي باب من أبواب الكمال، بل أسرع تلك الأبواب . لذلك أوجبها الحق على كـل فردـ في مستوى من مستويات الواقع. وان الشريعة أُوجِبَت مـن اجـل الكمال الخاص أو المرحلة التي فوقها فعند كمالها وجب على المُكمِّل لها الدخول في المرحلة الثانية من الإسلام لا الاقتصـار عليهـا فإن الاقتصـار عليهـا يوجب التوقف وليس وراءه إلا المـوت بـل هو الموت بعينه. وعلى هذا النظام المرحلي التدريجي الاستعدادي يكون الوصول لما أراد الحق لعباده، حيث لا تُظلـُم الغايـة. فالمرحلـة التـي تلي الشريعة من الإسلام هي مرحلـة الأخلاق وهـي الرابطـة بين الشريعة وما فوقها واعني البـاطن لان الأخلاق مـن المراحل الواسعة بل أوسع من الشـريعة. ففي الأخلاق يكون الدخول في المعنويات إذ أن الشـريعة هـي عبـادات جسدية أكثر مما هي نفسية، أما الأخلاق فإنها جامعـة لقسـمين هما الأخلاق المادية والأخلاق المعنوية فمن الأولى تتصل بالشريعة وهي ظاهر الإسلام و من الأخرى تتصل بباطن الإسلام، وعليه يـترتب أمـر. وهـو أن الفضائل والرذائل كذلك مادية ومعنوية إذ أن أكثر جوانب الأخلاق هي الرذائل والفضائل وان كان في الأخلاق ما هو أوسع من ذلك وأعمق، فتكون الأخلاق عبارة عن استعدادات نفسـية لدخـول العرفـان مـع وجـود الفوائد المستقبلية في الكمـال فمن الصعب على الإنسان أن يدخل طريق الكمال دون المـرور بمرحلـة الأخلاق لان ذلك يؤدي إلى التوقف في مستويات أخرى من المعرفة وقد هلك في ذلك الكثير من أصحاب الباطن.

   ومـدار الأخلاق يكون في تطهير ساحة القلب من الرذائل ثم زرع الفضـائل، والـرذائل عبارة عن حجب ظلمانية تحجب الكشوفات والأنوار والمعارف والتجليات عن النـزول إلى القلب. والعطاء القلبي عند نزوله يحتاج إلى استعداد عـلى قدره فـإن لـم يكن هناك استعداد قلبي فليس من موجب لـنزول العطاء  بـل العكس هنـالك موجـب لعدم نزوله لان الحكمة الإلهية إذا نزلت على القلب ولم تجد لها استعداداَ في القلب أضـرت به، أما لو وجدت استعداداً كافياً لها فليس من مصلحة لمنع تلك النعمة وهذا شامل للنعم المادية والمعنوية، لهذا نرى على المستوى المادي أن الفرد أحيانا يطلب شيئاً من الحق ولكن لا يُلبى طلبـه ظـاهرا، وذلـك لعـدم وجود الاستعداد الكافي لان الدعاء هو أسلوب من أساليب الأخذ سواء المادي أم المعنوي ويكون عـلى عـدة مسـتويات فتـارة باللسـان وتارة بالقلب وتارة بالحال، والأساس في ذلك هو الاستعداد وقد قال الحق في كتابه المجيد : { وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ }  [ابراهيم : ٣٤] أي بلسان الاستعداد حيث في الاسـتعداد يكون الطلب الحقيقي، وإلا فإننا لا نرى أن الحق إعطانا من بعض ما سألناه فضلا عن الكل ! والعلة في ذلك تعود إلينا وليست إلى الحق سبحانه لأن طلبنا كان طلباً لسانياً ينقصه الاستعداد، والطلب مع عدم الاستعداد معناه إني أريد استحقاق أكثر من استعدادي مع عدم اسـتحقاقي لـذلك وقـد بيـن الحـق الفرق بين الطلب اللساني والاسـتعدادي بآيـات كثيرة ، منها قوله تعالى : { قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف : ١٤٣] حـيث انـه عليه السلام أراد رؤية تجليات نور العظمة فلما أفاق قال سـبحانك تبـت إليك , أي من سؤال اللسان دون الاستعداد لتحمل الجـواب { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة : ١٠١ ].

   فـالتجرد من ( الأمراض الأخلاقية ) يؤدي إلى الجذب الإلهـي، حـيث بعد تجـريد القلب من الأمراض يكون القلب فارغاً. فيكـون اقـرب إلى الحق، وفي القرب يكون الاكتساب أي اكتساب الفضـائل إذ هي من ظلال صفات الحق.

   وكُلٌ من الفضائل والرذائل لها مستويات، فعند الدخول في المستوى الأول يكشف الحق لعبده المسـتوى الذي بعده وهذا يعتمد على التطبيق. وتقريب ذلك إن الإنسـان عـند تطهير قلبه من رذيلة الرياء مع الناس مثلاً يكشف لـه الحـق المسـتوى الآخـر وهو الرياء مع النفس ثم المستوى الأخر وهو الرياء مع الله فعندها يصفى القلب من هذا المرض، ومـن تجـاوز شيئاً أو دخـله صَغِرَ عنده. أما الرؤية دون العمل فأنها تكون اكبر من الواقع حيث أن البعد كفيل بإيجاد إطار وهمـي للرذيلـة فترى الرذيلة من البعيد بصورة اكبر من صورتها الواقعيـة. فعند التطهـير وحصول الصفـاء القلبـي تكون رؤية ونظرة الإنسان للخلق نظرة مجردة بل يكون قلبه موضعاً لأنوار وتجليات الحق، وكـل مـا لا تدركـه الأبصار تدركه البصـائر.

   وكذلك عندمـا يصفى القلب تُفتح الحـواس الخمس المعنوية الباطنية وهي الحواس المطلة على العـالم الحق فيكون الاتصال بالحق ولا اعني عالم الذات إنما عالم الروح العليا وعلى قدر الصفاء تكون قوة الاتصال بالحق، فإذا ضعف القلب قلّ الاتصال وربما انقطع، ولهذا نرى عدم وجود روحيـة حقيقية لغير المتطهرين في العبادة، لأن عبادتهم أصبحت رسالة دون اتصال مـع المُرسَـل إليه ومعها تنعدم الفائدة المرجوة، وذلك لتداخل الرغبات النفسية المؤديـة للإشراك البـاطني.

   فإحياء القلب كإحياء الأرض وذلك بقلع المضر وزرع النافع مع رعايته، ومن خلال هذه المرحلة تكون بعض السيطرة عـلى النفس وقطـع بعض الحبائل النفسية المسيطرة على الإنسان.

   فالأخلاق هـي مرحلة من مراحل الكمال العام واستعداد للكمال الخـاص فكـل من أراد الحق وجب أن يصل إليه متأدباً ومتخلقاً بـأخلاقه التـي تُأهلـه لدخـول حضرة القدس. وبما أن لكل ظاهر بـاطن فـإن لكـل باطن ظاهر وظاهر العرفان هي الأخلاق حيث هي الـدليل عـلى العرفـان، أما لو أهمل الإنسان الجانب الأخلاقي فسوف يتسافل في عالم الأخلاق مما يؤهله إلى الهلاك المعنوي. إذ الدخـول فـي الرذيلـة يُسّهل على الإنسان الدخول في غيرها بسبب الـترابط بيـن الرذائل لوحدة المصدر وكما أن النفس كلما ارتقت صعب عليها النزول كذلك فإنها كلما تسافلت صعب عليها الصعود، بل سهل عليها النزول.

   واعلم أن الإنسان كلما ارتقى كان حسابه أصعب فمن كان فـي مسـتوى الشريعة كان ذنبه اقل تأثيراً مما لو كان في مستوى الأخلاق وكلما تصاعد كان طريقه أدق، فأصبح الذنب المعنوي اكبر وطأة من الذنب المادي وذلك لعدة أسباب منها :

   أولا : إن الذنب المادي في مستوى داني، أما الذنب المعنوي فيكون في مستويات عالية. 
 
   ثانيا : إن للذنب المادي عدة علاجات، أما الذنب المعنوي فعلاجاته اقل وأصعب.

   ثالثا : إن الرابط بين الذنوب المادية اضعف من الرابط بين الذنوب المعنوية.

   رابعا : أن من السهل على الإنسان الإقلاع عن الذنوب المادية لان تحققها فـي الخارج أكثر من الذنوب المعنوية، أما الذنب المعنوي فهو ذنـب داخـلي وأحياناً يكـون له تطبيق في الخارج، فيكون من الصعب على الإنسان الإقلاع عنه وكما يقول الرسـول الأعظم: ( من السهل على الله أن يغفر للجاهل سبعين كبيرة ولكن من الصعب أن يغفر للعالم كبيرة واحدة ).

خامسا : إن الـذنب المعنوي يكـون فـي وسط النفس، أي في عمقها أما الـذنب المـادي فإنـه فـي إطـراف النفس. وهـذا كله بالنسبة للمذنب، أما بالنسبة للحق فان كل الذنوب بحقه سَواء وذلك لان الحق لا متناهي، فـإن الذنب يكون لا متناهياً ! وليس من فرق بين كبير وصغير { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ } [النحل : ٦١ ].

   إذن يتبن لنا أن مرحلة الأخلاق اكبر من مرحلة الشريعة وأبلغ أثراً وأعظم خطراً وقد أشبع أئمتنا عليهم السلام جانب الأخلاق بياناً وإظهاراً حتى ورد في مرحلة الأخلاق أكثر مما ورد في مرحلة الشريعة. فالتوقف عند مستوى واحد من الإسلام هو تعطيـل للـدين ونقص لليقين وغلق لباب التكامل، فالواجـب أن يُسـتَغل الدين بجميع جوانبه وفروعـه لا أن نبقـى فـي مسـتوى واحد ونتعمق به ونهمل بقية الجوانب، والسير المطلوب طولاً لا عرضا، ولو سار الإنسان طـولاً لمر بكل مراحل ومستويات الدين. فإنا نرى الجانب الأخلاقي قد أُهمل، علمـاً إن لدينا كتاب جمع كل مستويات الأخلاق وهـو القـرآن، هذا جانب. والجانب الآخـر هـو أن الأخلاق مـن الأنظمة الاجتماعية فلو تحقق الإنسان لرأى كل المشـاكل الاجتماعيـة فـي كل المجتمعات سببها إهمال الجانب الأخلاقي فكـل مشـكلة ناتجـة من إفراط أو تفريط في القـوى النفسية، وان الاختلال في التوازن النفسي يُنتِج مجموعة أمراض أخلاقية تنعكس في المجتمع وتوصله إلى التردي في هاوية الرذائل والشهوات.

( والحمد لله الذي عرّفنا أخلاقهُ )





جديد قسم : فيوضات من الباطن

إرسال تعليق