فيوضات من الباطن
الحال

الباب العشرون
الحال

   الحال هو تغير يطرأ على الموجود فيُحوّله من الوضع الذي هو فيه إلى وضع آخر ، أي يَحول دون استقرار الموجود . وهو من ركائز النظام الإلهي بقسميه المادي والمعنوي . ولكل عالم أحواله التي تكون من سنخه .

   ففي الظاهر, تطرأ على أهل الدنيا أحوال عديدة ، ومنها حال الجوع والشبع ، والصعود والنزول وما شابهها من الماديات والمعنويات .

   ووجود هذه الأحوال هي من اكبر الأسباب لبقاء الاتزان في النظام الظاهري ، حيث أن تسيير النظام الظاهري يكون بما يطرأ من التغيرات على من هو في داخل إطار هذا النظام , أما مع عدم وجود الأحوال ، فسيؤدي إلى الاستقرار الظاهري وسقوط السببية فيه ، وهي تعود إلى أصل معنوي يكون ظل قيامه في الماديات , فتكون الأحوال الظاهرية في الأشياء الجسمانية والتي تعكس تأثيرها على النفس لا دائماً ، إنما الانعكاس يكون عبر الترابط المادي المعنوي ، أما إذا انقطع ذلك الرباط فيكون حالا ماديا خالصا عند النظر بالعين اليسرى . ولكن الغالبية الكبرى في وجود الرابطة بين الاثنين ، إذ أن القطع يكون معنوياً مصطنعاً أي يقطع الرابطة بين المادة وما ترتبط به منه لا منها ، وإلا فمن المحال تحقق الثانية للحكمة التي ذكرناها . 

   أما الأحوال في الآخرة فهي في تفاوت على حسب مراتب الآخرة ، فإن أصحاب النعيم الجسماني يكونون في أحوال ذات تأثير تصاعدي متوسط لكونها أحوالاً داخل الملذات ، وبما أن النعيم متوقف ، فسوف يقتصر أصحاب النعيم الجسماني على نِعم محدودة ، فتكون الأحوال قليلة .

   هذه الأحوال في جانب واحد من جهة الملذات الجسمانية والنفسية ولا يتعدى إلى الجانب الآخر . وحتى إن تقدمنا وقلنا بالدخول في الجانب الآخر من منطلق الانغماس باللذة يولد الألم ، فسيكون هذا الدخول بقدر معلوم حيث إن من عرف الفضيلة ، عرف الرذيلة بالإلهام بما إن الحق ألهمها فجورها وتقواها .

   أما أصحاب الجحيم المادي ، فهم كذلك في أحوال مستمرة وأحوالهم تصاعدية . ومن هذا التصاعد تفتح أبواب جهنم ، حيث أن العذاب الواحد أي دون الأحوال يولد الاعتياد الذي يمحو بدوره صورة العذاب ، لان من فَعلَ فعلاً نفسياً واستمر عليه أستساغ هذا الفعل  , ثم أحبه ، ثم اعتاد عليه ، ثم  فُني به ، فان وصل إلى تلك الدرجة صعب الإقلاع عنه ، وهذا ظاهر في الحياة الدنيا ولا يحتاج إلى بيـان ، حتى يدخل الفعل في أكثر الأشياء . لذلك لزم تغير الحال عند أصحاب الجحيم أكثر من أصحاب النعيم لكي لا يعتادوا على العذاب فيتوقفوا .

   الجانب الآخر إن قوة الاعتياد تعتمد على الفعل ، فان كان صعب الفعلية عَظُم التمسك به والاعتياد عليه وصعب الإقلاع عنه ، ومن كان أصله صعباً , صعب الإقلاع عنه بعد التعود ، وهذه طبيعة نفسية ، ومن كان في الظلام رفض النور ، ومن كان في النور رفض الظلام  .

  وكما قال تعالى : { أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } [البقرة : ٦ ] إنما طُبع ذلك الفعل في ألواح قلوبهم , فإنهم بعد وصولهم إلى مرحلة معتدٍ بها من التعمق في الفعل الموجبة للتسلسل الكمالي فيه , صعب عندئذٍ الإقلاع عنه . وهذا كله يصب في صالح النظام العام حيث يستمر النظام في مسيره .

   أما الأحوال في الباطن :  فالحال في الباطن هو تحوّل واستعداد وإتمام ، حيث إن طالب الكمال تَمُر عليه أثناء مسيره أحوال عديدة ، ومن تلك الأحوال ، الحال الأولي الذي يكون في أول دخول المقام وأعني أي مقام ، ومنها بعض الأحوال التي تكون كمال لذلك المقام عند تجاوزه . وهناك أحوال كمالية ُتنزَل على المريد من اجل إتمام نقص في المقام الذي هو فيه ، وغير ذلك . وهذه الأحوال تكون في تفاوت بالنسبة لزوالها ، فمن الأحوال ما يكون كالبرق ، ومنها ما يمكث لمدة أطول . ومن هذه الأحوال ، حال التسليم عند من شارف على إتمام مقام التوكل فسوف ينزل عليه حال من التسليم مقدمة لمقام التسليم ، وكحال الفناء قبل الوصول وغيرها من الأحوال .

   وهنالك من الأحوال ما تكون تبشيراً لدخول مقامها ،  فعندما ينزل نازل الحال في السفر الأول يكون من المقام الذي سيدخله المريد ، وبعضٌ منها ما يكون نوعاً من أنواع الإعداد للمقام الذي جاء منه الحال . والحق يكشف للمريد في الباطن المقامات التي سيدخلها بنزول الحال .

   ومن شأنه إقرار المقام ، فمن كان مثلا في مقام المحبة ، يُنَزّل عليه حال العشق فعندها تستقر المحبة ، والاستقرار هو كمال المقام ، عندها يصبح حال العشق مقاماً ، ويستقر العشق بنزول حال المشاهدة ، أي إن نزول الحال هو استقرار للمقام الأول ، ودخول لمقام ذلك الحال ، فيكون دخول مقام المشاهدة ثم ينزل حال الفناء وهكذا .

   والحال يأتي مبكراً أحياناً ، وأحيانا يتأخر حسب استعداد المريد . ولكلٍ من النفس ، والقلب ، والعقل أحوال تختلف على حسب طبيعة العالَم .

   فأما الأحوال النفسية ، فإن طبيعة التكامل النفسي يقتضي وجود أحوال نفسية أي نازلة إلى النفس تؤدي إلى عدم استقرار النفس .

   لان الصفات النفسية فيها ما يَحتجب بالظواهر كالعبادات أو غيرها فهذه الصفات لا تعرف إلا بالتقلبات والأحوال التي تصُب في صالح الكمال ، وهي باب من أبواب الكشف الذهني ، أي يكشف للإنسان ذهناً النواقص الصفاتية التي لا يبصرها من خلال هذه الأحوال ، فإن الحال هو المثير للرذائل والمظهر لها ، فتكون هذه الأحوال مقياساً للنفس ومعرفة صفاتها .
   
   أما بالنسبة للقلب ، فان له أحوال كثيرة ، وهي من كمالات القلب ومن عمله ، ومن هذه الأحوال الكُربة والانشراح ، والسكون القلبي، والحزن والفرح وغيرها ، وهذه الأحوال تكون السبب الأكبر لمعرفة القلب والتعامل معه ثم تجاوز مقام القلب .. وكذلك تحول الأحوال القلبية دون توسع القلب .

   أما العقل ، فان الدخول إلى مقام التفكر يولد الأحوال العقلية من بداية المقام ، ومن هذه الأحول التنقل الذهني ، حيث ينتقل فكر المريد من الفكرة المراد العمل بها إلى فكرة أخرى ، وتنتهي هذه الأحوال ( أعني تأثيرها ) عند التوغل في عالم الجبروت والاتصال بالعقل الفعال ، بحيث يكون هناك سيطرة على العقل ، وللمريد قابلية السيطرة على الأحوال العقلية .

   الأحوال الحقيقية هي فيض من الحق إذ أنها مستفادة من صفته الباطنية تعالى والبائنة في قوله تعالى : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } [الرحمن : ٢٩] لان تجلي الشئنية الحقيّة في الخلق لا في الحق بما أن الخلق مرآة للحق . 

   والأحوال عطاء من الحق فمن نزل عليه حال لمقام ما ، فليعلم بقرب ذلك المقام ، وتكون سبب في تكامله .

   وربما رأى الإنسان بعض الأحوال أنها أحوال صادرة من النفس وليس من جهة عليا لأنها تحمل الصفات النفسية وتخلو من النفحات الإلهية قلنا إن هاهنا وجهين :

   الوجه الأول : إن الأحوال تارة تكون صادرة من جهات الإنسان وتارة نازلة إليها ، فما شابهت صفات الجهة نسبت إليها بلا إشكال .

   الوجه الثاني : إن الحال إذا فُصِل بالاستقلالية الظاهرية فمن النفس . أما في الباطن فإنه من الحق . وأما في الواقع فهو من الإنسان ، سواء أكان حالا نفسيا أو قلبيا أو عقليا ( ولا تنافٍ بين الثلاث ) ، ولا يُميَز إلا بالذوق والكشف الحقيقي .

   ولو تقدمنا خطوة في معرفة الحال ، لوجدنا أن للحال مقدمات وهذه المقدمات تميز بين الحال الإلهي والأحوال الإنسانية في مراتب الفصل ، ومن هذه المقدمات الخواطر ، وإن كان منها ما لا يكون مقدمة للحال . والأحوال كلها لا تُعرف إلا عند المعايشة .

   وهنالك شيء آخر ، وهو إن الحال يتكرر أحيانا في أمر واحد ، ومثال ذلك ، أن ينّزل الحق على المريد حال التوسيع فينبعث من باطنه داعيته ، ثم تزول هذه الداعية بطغيان صفات النفس ، عندها يُنزل الحق حالاً آخر للتوسيع من اجل تقوية الداعية حتى يصل الإنسان إلى السيطرة ، فيكون ذلك الحال مقامه المطلوب .

   ومن المشاكل التي تواجه طالب الكمال هو عدم التمييز بين الحال والمقـام ، وربما أدى عدم التمييز هذا إلى عدم دخول بعض المقامات ، لظن المريد الحال مقاماً فتنصرف إرادته عن دخول المقام ، ثم تسقط الإرادة لذلك المقام ، ومن ثم يُحجب عنه . فمن أبرز الفروقات بين الحال والمقام هي :

   أولاً : إن الحال يُعدُ من النوازل ، أي ليس للإنسان أن يصل إليه ، أما المقام فان الإنسان هو الذي يدخله .

   ثانياً : إن الحال إجمالا لا يدوم فترة طويلة ، إنما يكون نزوله لحظات ، أما المقام فان المريد يقيم فيه فترة طويلة .

   ثالثاً : في المقام يظهر الكمال ويبطن العطاء ، أما في الحال فيظهر العطاء ويبطن الكمال .

   رابعاً : إن المقام يعتمد على الحال وليس الحال كذلك . والتوكل على الحق تعالى يغني عن كل سبيل .

   أما فوائد الحال فإن له فوائد لا تحصى حيث لكل حال فوائد تختلف عن غيره من الأحوال ، لكن من الفوائد التي يكثر اشتراكها :

   أولاً : إن الحال هو استعداد لدخول المقـام ، أي أن المريد يُحجـب عـن دخول أغلب المقامات دون الحال لذلك , فالحال يوجب تحـّول نفسي لذلك المقام , وان كانت هناك إرادة باطنية ، ولكن الإرادة الباطنية إجمالية لدخـول المقام .

   ثانياً : إن بعض الأحوال تكون ذات فوائد بعيدة , فمنها ما يكون فائدته في السفر الثالث أو الرابع .

   ثالثاً : تُعطي بعض الأحوال التوسعات في الكمالات الجزئية .

   رابعاً : يعطي اسـتعداداً للوصـول إلى حقيقـة المعايشـة لكـل المعـارف الكامنة في السفر الثاني . إضافة إلى الفوائد التي ذكرناها سابقا . ونكتفي بهذا المقدار بخصوص الحال.


( والحمد لله الذي مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا )





جديد قسم : فيوضات من الباطن

إرسال تعليق