فيوضات من الباطن
معرفة الباطن والعرفان


الباب الأول
معرفة الباطن والعرفان

   إننا نرى أن العلم الظاهري بكل جوانبه وصل إلى مراتب معمقة، حتى أمسى أصحاب الظاهر يبحثون في دقائق الموجودات من الجهة المادية، فتفرعت العلوم واخذ كل فرع بالمسـير والتفرع فمنها من أقر بعجزه ومنها من أبى الإقرار، وكل يطلب كماله، ولكن أغلب ما وصل إليه العلماء هو قابل للنقض بالمعنى الظاهري لأن ما وصلوا إليه هي إما قضايا واقعيـة ظاهرية، واعني بها واقعية مادية أو تأويلات عقلية واستنتاجات مادية وكـل ذلـك معـرض للتأثير النفسـي والوهم العقلي أو الخـواطر وغيرهـا مـن الأمور التأثيرية الداخلية والخارجية، فـانك ترى الفيزيائي مثلا يحلل الظواهر الفيزيائية بتحليلات ماديـة مـع غض النظر عن التأثير المعنوي لذلك، والنتيجة من ذلك إنهم لـم يصلـوا إلى نتيجة بالمعنى الحقيقي أو قل بالمعنى المطلوب، أي إن طريقهم الذي سلكوه لم يكن الطريق المرجو، إنما حدث انحراف في اصل المسير مما اضطرهم إلى الدخول في عمق الظاهر بحيث صعب عليهم الخروج منه أو الإطلال عـلى عالم الحقـائق حـتى أصبحـت بعـض الظنـون قواطع وبعض الأوهام حقائق بل معتقدات يصعب زوالهـا حتى حين ظهور الحقائق، والتي أدت إلى حَجب الإنسان عن عـالم الحقـائق. والسـبب فـي ذلـك هو أن طبيعـة النفس لا تبتغي المصـاعب بـل تتنـاول القـريب. واعنـي بهـا النفس الأمارة والقريب من النفس هو ما كان داخل الإطار الوهمي الموجودة هي فيـه. والنفس لـدى أغـلب النـاس في كامل قواها. فأخذت الفجوة تزداد كلما تقدم الإنسان، وهذا التقدم في واقعه هو مطاوعة النفس بكل إرادتها، فنتج عن ذلك البُعد عن طريق الحق. فأمست الطرق المؤدية إلى عالم الحقيقة منطمسة بقلّة أهلها. ونحن نعلم إن اتخاذ أي طريـق مـن طرق البـاطن هـو تضعيـف لقوى النفس وإقلال من سـيطرتها عـلى الإنسان فلهـذا أخذت النفس مجراها في الظواهر ولم تتعداه. فترى الموّحد موّحداً دون معرفة أي مستوى من مستويات التوحيد. علماً أن الذي طولبنا به هو التوحيد المبتنى على المعرفة وليس التوحيد الساذج وقد بُين لنا ذلك في مواطن كثيرة ومن أوضحها ما بينه الحق تعالى على لسان أمير المؤمنين إذ يقول : ( أول الدين معرفته وكمال معرفته التصديق به وكمال التصديق به توحيده وكمال توحيده الإخلاص له وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ) وهذا البيان هو منهج توحيدي في أعلى مستويات التوحيد وسبيل للوصول إلى العبادة المطلقة. لكن ما نراه من المتدينين هو الاعتناء بظاهر الدين دون جوهره. وكثيرة هي الأخطاء الظاهرة والتي سببها عدم الالتفات الجدي للإرادة الإلهية، والسطحية دون التعمق الموصل إلى ما وراء الظواهر لا التعمق في الظواهر الذي لا يوصل إلا إلى الاحتجاب بها عن البواطن.

   حـتى وصـلت النوبة إلى الكتب السماوية والأنظمة الشرعية، فـترى فـي تفسير القرآن مثلا إن اغلب التفسيرات المعطاة للآية لا تبين حقيقة الآية إنما تبين ما يريده المفسر من الآية لا ما تريد الآية من المفسر إظهاره وهذا أدى إلى سلب الأثر الروحي في مرحلة البيان فأصبحت الآية في تفسيرها لا تغذي المطّلع عليها معنوياً.

   ومن جانب آخر أخذت الكـتب السـماوية تُفسَّـر بالتفسـير المـادي وأُهملت روحيتهـا، وهـذه بشـرى بـالموت حيث أن المادة قابلة للكون والفسـاد فـي أي مسـتوى مـن مسـتوياتها حتى في تأويلها. وهـذا كلـه ُبعدٌ عن الهدف الذي وجِدت البشرية من اجله بل وجد الخلق من اجله، نعم الحق أمرنا بالعمل العقلي وأراد منا التفكر لكن أراد منه الموصل إليه لا الُمبعد عنه وعندما قال جلّ ذكره : { يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }  [الروم : ٧] ليس يمدح علمنا ! بل هو ذم ونهي. حتى وصل هذا الانحراف إلى زماننا وبالقطع أصبحت الفجوة اكبر بل تغير النظام بالكلية واخذ بالمسـير العكسـي، وهذا ما بشر به الرسول الأعظم في قوله : ( كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً ) لا بمعنى تبدل الموضوع وإنما تغير النفوس فكان البدء بالمسير التنازلي وهذا ما نراه اليوم، حيث أصبح المدركون لطريق الحق أندر من الكبريت الأحمر ( ولا اعني المدعين فالمدعون كُثر ). علمـا أن كل إنسان أعطاه الحق جل ذكره الاستعداد للمسير في طريق الحق والـذي منـه معرفـة حقيقة الحق والخلق وحقه.

   واعلم : أن الطـرق التي أوجدها الحق تعالى وجعلها أبواباً للكمال والتكميل عديدة بل بعدد أنفاس الخلائق ! كما ورد ، ولكن لكل طريق استعداده الخاص. وبعض الطرق لا تـوصل إلى الغاية المطلوبة بل إلى برازخ عليا فقط اعني طرق متناهية.

   لكن الطـريق الـذي خطه أئمتنا ( ع ) وارتضوه لنا هو طريق العرفان أو قل المعرفة وهو اسلم الطرق ولانهائي الغاية. والمعرفة هي الغايـة الكماليـة التـي من اجلها خلق الإنسان، وهي الطريق المـوصلة إلى الحق سبحانه بل إن كل الظواهر هي استعدادات لذلك!.

   وللعرفـان عـدة مسـتويات من التعريف في الباطن ولكـننا نقتصـر عـلى مستويين منها لان غيرهما من الأسرار، أما حقيقة العرفـان فهـي مـن أسرار الباطن الثاني فيتعذر الحديث عنها.

    أما المستوى الأول ( وهو العرفان الأدنى ) :  فهو معرفـة بواطن الموجودات وحقائقها المعنوية المقربة لله تعالى لا المبعدة عنه. والباطن يخـتلف عن الحقيقة، والخوض في مثله متعذر ولكن من أراد الله بالإرادة الحقة كُشف له ذلك ويكون مصداقا لقوله:

{ وعلمناه من لدنا علما } 
[الكهف : ٦٥].

   أما المستوى الثاني : فهـو المسـير فـي الكمـال اللامتنـاهي المؤدي لمعرفة الحق الموجبة للتكامل منه به عبر غريزة الشوق للكمال المطلق. فلو نظرنا إلى الموجـودات لرأينا كل موجود يسعى نحو الكمال ولكل شـيء كمـاله الذي يبتغيه، وليس للموجود بعد وجوده إلا السعي لكمال ذلك الوجود، نعم إن الكمال المطلوب هو الاتجاه نحـو الأعلى ولكن من الناس من يتبع الكمال النفسي العكسي فيكون العاقب على عكس المطلوب.

   وكـل كمال فقدي كان أو كسبي يقع تحت خطين من التكامل وهما الأصل :

   الأول : هو الكمال نحـو الأسفل أو قل الكمال التنازلي، وفيه يأخذ المخلوق بخط التسافل التدريجي إلى أن يصل إلى كماله المبتغى بالإرادة الفعلية أو الاستعدادية. مثـل الذي يرتكب ذنب ثم يرتكب غيره ثم يفسق ثم يكفر حتى يصل إلى ذروة كمالـه فيكـون بابـاً مـن أبواب الكفر. وكل ذلك يكون بالتدريج حيث لا طفرة في التكامل ولا استقرار حيث طبيعة النفس. وسبب هذه السلسلة المتكاملة هو الذنب الأول الذي يعـطي اسـتعداداً للذنب الآخر وسـهولةً في فعله وتخفيفاً من وطئتـه. ولهـذا الطـريق مسـالك عديـدة ومستويات متفاوتـة حسب الإرادة وتجريد النية.

   الثـاني : هـو الكمـال نحـو الأعلى أي نحـو اللامتنـاهي، وهو الكمال التصاعدي، وفيه يصل الإنسان إلى أعلى درجات الكمـال، وذلك بالاقتباس من نور حضرة صفاته ثم ذاته. ولهذا الخط اسـتعداده الخاص، ومداره التقرب للحق سبحانه، ومن تقرب إلى من هو أعلى منه وكان غايته اكتسب من صفاته قهراً. وللإنسان قابلية للاكتساب كما قال في الحديث القدسي : (( عبدي أطعنـي تكن مثلي )) عن طريق الاكتساب منه.

   والتقرب يكون على قدر المعرفة وان كانت المعرفـة الفطريـة واحـدة بالمنظار الظاهري. ولكن هناك من يتخبط بالمسير وذلك لوجود المانع الموجب لعدم الوصول إلى الغاية السامية ولكن بعناوين أُخر مثل الخلاص من الجحيم أو الفوز بالنعيم. فإن هذه من الأمور الموجبة لتوقف الكمال لان الحق لم يخلقنا من اجل الجنة أو النار. وليس للحق أو الخـلق مصلحـة مـن دخـول الكافر جهنم، والواقع إن هذه الغايات اسـتخدمها الحـق مـن اجـل التـدرج في عالم الكمال وهذا من أساليب الحـق الجذبيـة الظاهريـة، لأن الظواهر أبواب للبـواطن، ولان الإنسان الذي يصل إلى درجة استحقاق الجنة وهي درجـة في سلُّم الكمال العام يطمع في الدرجة التي تليها بل يبين الحق له الدرجة التي تليها، فإنها ليست الكمال المطلوب لمن يطمح للوصول لأعلى من ذلك والدافع في ذلك هو غريزة الشوق اللانهائية الموصلـة للكمـال المطلـق، وتـزداد قوة هذه الغريزة كلما سارع الإنسان وقطع شوطاً في ذلك، ولولاها لبقي الإنسان فـي مقـام واحد وتوقف المسير وهذا هو الموت قـال جـل ذكـره : { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١)[النحل : ٢٠ - ٢١]. وقد أودع الحق في الإنسان من القدرة ما يستطيع بها أن يصل إلى أعلى درجات الكمال ومثاله الأنبياء والمعصومين (ع) لأنهم عندمـا وصلوا إلى ما وصلوا إليه كان باستحقاقهم ولم يكن عطاءً عـلى غير هذا الوجه، ومن المحال على الحكيم أن يودع قوة لانهائيـة لأجل غايـة متناهية سواء أكانت نعيماً أم جحيماً.

   فأما أن يهمل الإنسان اسـتعداده فذلـك غير صحيح وهو محاسب عليه، ويعد ذلك من ظلم النفس لان ظلم النفس هو حجبها عن كمالها، فيجب على كل إنسان أن يكون هدفه الحق، إذ أن كل شيء غير الحق هو ما دونه وكل طلـب أو إرادة لمـا دون الحـق هـو من الإشراك لا بل ليس غير الحق إلا الباطل، يقول الإمام الحسـين (ع) ( الهـي أمرت بالرجوع إلى الآثار فأرجعني إليك بكسـوة الأنوار وهدايـة الاسـتبصار حتى أرجع إليك منها كما دخـلتُ إليكَ منها مصون السر عن النظر إليها ومرفوع الهمة عن الاعتماد عليها) هـذا جـانب. الجـانب الأخر مـن أراد المعرفـة المجردة لكل الأشياء وجـب أن يعـرف العالي لكي يهيمن على الداني ولكي تكون معرفته خالية من الخطأ معصومة من الزلل.

   وفي هذا الطريق أعني طريق المعرفة يكشف الحق لأهله من أسرار الحـق الخاصـة بالربوبيـة والإلوهية أسرار الأنبياء والرسل والأولياء وسر التنزيل والتأويل وأسرار الأنظمة الإلهية سواء الظاهرة منها والباطنـة وأسرار المخلوقــات وســر الخــلق وأسرار التكوين وأسرار النفوس والعقول وإسرار الأوائل والأواخر بل كل الأشياء من حـيث الكليـة والجزئيـة حتى يصل الإنسان إلى حقيقة المعرفة. ولكـل من ذلـك استعدادٌ خاصٌ وعلى قـدر اسـتغلال الاسـتعداد يكون الاستحقاق. فكل من أدرك المعرفة أدرك أن العبادة الحقة لا تكون إلا بعد معرفة استحقاق المعبود، فهل إن هذه العبادة تستحق أن ترفع إليه أم انه يستحق أكثر من ذلك. وعجبي ممن لا يعرف الله كيف يرضى بعبادته ؟!. إذن يجب على الإنسان أن يسعى ليعبد الله حق عبادته، وان كانت هذه المسألة فيها صعوبة ومشقة، لكن البدء بالإرادة وأما الصعوبات فلا تكون إلا على النفس وكثـيرا مـا تمر بنا صعوبات في الدنيا فليست بشيء غريب. والاستعداد في البشرية متساوي إنما الاختلاف في استغلاله والعمل به فمنهم مـن يتركـه ومنهـم مـن يسـتغله وهـذا ما رفع الصالحين ووضع الفاسقين، وكل الظروف التي مرت بها البشرية كفيلة بأن تحتم على الإنسان استغلال استعداده وكلما تقدم الزمن زاد الاستعداد لـدى البشـرية وهذا من أصول التخطيط الإلهي وهـو مـن كماليـة الطريق العام ( وان كان ظاهراً غير ذلك لكن لا حجة للظاهر على الواقع )، وإلا لو كان العكـس لسـقطت الحكمة الإلهية، ومن ذلك أصبح أصحاب الإمام الحجة (ع) أكثر اسـتعداداً مـن أصحاب الأئمة السابقين عليهم السلام. وقـد ورد عـن الرسـول الأعظم انه كان يسمي هذه الأُمة بالأمة المرحومـة والأمـة المعصومـة أي مرحومـة في زمن الرسول ( ص ) ومعصومـة فـي زمـن الحجة (ع) حيث إن البشرية تصل إلى ذروة استعدادها.

    أما كيفيـة الدخول لذلك الطـريق فـان الإنسان يستطيع أن يدخل من جميع الموجودات لأنه مـا من ظاهر إلا وله باطن { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [فصلت : ٥٣]. وهـذه الطـرق فـي تفاوت واختلاف باطني وان كان المصب واحداً ولكن أكثر ما حث عليه الأئمة هو طريق النفس، أي تكـون معرفـة الحق عن طريق معرفة النفس لأنها من آياته الكبرى ودلائله الأولى، وقد قـال الأمير ( ع ) : ( من عرف نفسه فقد عرف ربه ) وقال أيضا : ( من عرف نفسه فقد انتهى إلى غاية كل معرفة وعلم ) وقال ( ع ) : ( من عرف نفسه جاهدها ومن جهل نفسه كان لغيره اجهل ) إلى غير ذلك. أي إن النفس هـي اقصـر الطـرق لمعرفـة الحـق ونهاية معرفة النفس بداية معرفـة الحق . وكل ذلك هو سير في الكمال . ولكن يحجب الإنسان عـن المداخل للمسير في الكمال حجب كثيرة منها حجاب الغفلة النـاتج عـن سـيطرة الصفـات النفسـية أو التوغل في الدنيا فينظـر الإنسان إلى الموجـودات نظـرة ماديـة صرفة. أما لو سعى الإنسان في إزالة هذه الحجب لرأى حقائق الموجودات { لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ق : ٢٢] وقال الرسول : ( من عمل بما يعلم أورثه الله علم ما لم يكن يعلم ).

( ومنه البدء واليه المنتهى )





جديد قسم : فيوضات من الباطن

  1. أين ملف التحميل لتنزيل الكتاب وكم جزء؟ وهل هذا الكتاب شرح كامل لكتاب الاسفار الاربعه المتكون من تسعة اجزاء؟

    ردحذف
  2. من اين احصل على هذا الكتاب

    ردحذف