العطاء الإلهي الباطني والاستعداد له

فيوضات من الباطن
العطاء الإلهي الباطني والاستعداد له


الباب الخامس
العطاء الإلهي الباطني والاستعداد له

   إن العطـاء الإلهي موجود في كل العوالم وعلى كل المستويات والأحوال { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : ٣٤]. وهو عام وخاص وذلك حسب ما تقتضي العدالة الإلهية. فـقد تساوت البشرية في درجات واختلفت في أخرى، ففي المرحلة الأولى من الرحمة كانت سواء، ولهذا أصبحت رحمة الله عامة على كل البشرية بل على كل الخلق، وهذه المرحلة هي مرحلة العبوديـة بالنظرة الإلهية لا الإنسانية فاستحقوا بها النِعم الأولى، لكن عـلى القـدر التكـويني للمخـلوق ومن هذه النعم نعمة الوجود ونعمة العلم اعني البدائي ونعمة الرزق المادي وغيرها من النعـم، لكن في مراحل أعلى من ذلك وجب التفاوت لتحـقق العدالة، أو قلُ لاستمرارية العدالة وان اختلفت النتائج وما ذلك إلا لاختلاف المستوى الكمالي للمخـلوق، لأن التفـاوت الموجود لدى البشرية مثلا يستلزم تفـاوتاً في العطـاء إذ العطـاء عـلى قـدر الإناء فالمتحكم بالعطـاء أو نزولـه هـو الإنسان وليس الحق، وحسب القاعدة فالعطاء موجود واعني بالعطاء هي النعمة لكن من أراد فليأخذ، والأخذ هنا مقيد بالاستعداد وهذا القيد من الإنسان لا من الحق، فبهـذا أصبح للعطاء مسـتويات جزئية عديدة وهو شامل لكل الخلق، وكـذلك تعددت النعـم نوعاً، فإن لكل مخلوق إرادتـهُ للنعمـة التـي يحتاجها فمنهم من يحتاج الأكل ومنهم من يحتاج القرب وغيرها، وكلما ارتقى المخلوق في كماله تبدلت نعمتـه وانجذب إلى النعم المعنوية.

   والإرادة حسب الاحتياج فمنهم من يريد نعمة ذات ضرر عليه أو على كماله فيأخذها ومنهم مـن يريد مـا ينفعـه. وكل النعم تنحصر تحت خطين من العطاء لعدم خروجها عن خطي الكمال لهذا أصبحت قسمين في الأصل. فالنعمـة الأولى أو القسم الأول من النعم هي :

   النعمة الرحمانية : وهي عـلى مسـتويين :

   المستوى الأول : هـي النعمـة الرحمانيـة الماديـة ، والمتصورة بالملـذات الجسـمانية كالأكل والشرب وغيرها ومن خلالها يكون عطاء الله لأهل الدنيا.

   والمستوى الثـاني : هـي النعمـة الرحمانية المعنوية التي تتمثل بالجاه والشهرة والقيمة الاجتماعية ، والعلوم الظاهرية ، والأوهام النفسية وغيرها.

   وهذه النعمة بكلا المستويين تشمل الجانبين، الدنيوي الأخروي. أي تشـمل عموم طبقات المحجوبين، ويكون فيها تفاوت حسب الإرادة والاسـتعداد، فمن كانت إرادته للذة دنيوية مع خلق الاسـتعداد لـذلك والتجـرد التام عن ضدها يكون أخذه لتلك اللـذة كاملا دون نقصان، أما لو كانت له إرادة لتلك اللذة مع رجاء ضدها فيكون له نصيب منها أي من الأخرى.

   أما بالنسبة للآخرة فإن العطاء الأخروي هو كذلك عطاء نفسي وتحقيق رغبات نفسية. وبمعنى أدق إن النعمة الرحمانية هي نعمة جسمانية نفسية سواء كـانت فـي الدنيا أو في الآخرة لا فرق بينهما، حيث إن النفس هي هي أينمـا كـانت فمـن تجنب اللذات الدنيوية إنما أراد الملذات الأخروية أو قل إنما هو تأخير للذة  ليس أكثر، وبمعنى أكثر صراحة لا يأكل اليوم من اجل أن يأكل غدا أكثر !!.

   والتسبيب لنزول هذه النعم الرحمانية تسـبيباً كـاملاً يحجـب عن النعم العليا لان هذه النعم هي أدنى مستويات النِعم لذلك عممها الحق على الخلق في المستوى الأول.

   وهـي كلهـا متعلقـة بإرادة الإنسان حـيث يقول الحق تعالى :  { وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ } [آل عمران : ١٤٥] أي من كان يريد لـذة الدنيـا وسبّبّ لها بالاستعداد فسوف نعطيه على قدر استعداده ومن كان يريد ثواب الآخرة ( والمعنى هنا هي الجنة لوجـود كلمة ثواب لان الآخرة هي غير ثواب الآخرة )  فكل من أراد ثواب الآخرة واستعد له فسوف نؤتيه منها، أما سنجزي الشاكرين فهـم غـير أهل ثواب الدنيا والآخرة، إنما هم الـذين يريدون وجهه فيشكرونه إن أعطاهم الدنيا والآخرة أو منعهـم الدنيـا والآخرة فأولئك لهم الجزاء. وهذه المرتبـة هـي أرقى مــن المــرتبتين السـابقتين، والحـق : إن طلب هذه النعمة أو الاهتمام بها يحجب عن الهدف الحقيقي الذي من اجله خلق الإنسان.

   لكن يبقى على مستوى الظاهر أهل الآخرة واعنـي أهـل الجنـة أفضل مـن أهل الدنيا، وإن كان عند النظر للواقع كلاهما لم يصلا إلى ما أراد الحق لهما.

   أما القسـم الثـاني : مـن العطـاء فهي النعم الرحيمية. وهذه النعـم خاصـة بأصحاب الباطن والتطهير وأرباب القلوب والمجاهدة، وهـي نِعـم الـذوق القلبي والكمال الروحي فمن البديهي أنها أرقى من النعم الرحمانيـة وأشرف في سلّم الكمال. ولهـذه النعـم استعدادها الخاص ومستواها من الإرادة. وأهلها هم الذين يطلبون وجه الحق فليس من حجاب يحجبهم عنه إلا قدر إرادتهم بعد التجرد عن طلب النعم الدانية، فهم على عكس ما عليه أصحاب النعم الرحمانية الذين احتجبوا بالنعمة الدانية عن النعمة العالية لتوقفهم عند الظواهر المحققة للنعم الجسمانية الظاهرة، حتى أصبحوا يَرون الحق في نِعمه وإذا ما فُقِدت فقدوا الحق ! وأما إذا زاد الحق عليهم النِعم تراهم وما من شيءٍ اقرب إلى قلوبهم منه !.

   فبها كانت غايتهم النعمة لا المنعم، والحق يعطيهم ذلك ولا بخل في ساحته، ولو منعهم ذلك لأضرهم وضلوا عـن طـريق الحـق حيث أن الرابطة التي تربطهم بالحق هي هذه النعـم. فكانت عبادتهم أدنى مستويات العبادة لارتباطها بمصلحة دانية أي كالذي يصاحب إنساناً من أجل أمواله ( ولعمري إن هذا ليستقبحه السفهاء فضلاً عن العقلاء ).

   أما بالنسبة لأصحاب النعمة الخاصة فقد أعطاهم الحـق مـن النعـم أسناها { وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } [البقرة : ٢٦٩] ومن الدرجات أعلاها { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١[الواقعة : ١٠ - ١١]. فمـن أراد الحق هيأ الحق له سُبل الوصول إليه، وكمـا قـال فـي الحـديث القدسي : (( من تقرب لي شبرا تقربت له ذراعـا )) فيحتضن الحق مريديه من أول مرحلة إلى ما شاء الله، حـتى يـرى طالب الحق أن مسيره بفعل الله وليس بفعله ، وتتحقق ( لا حول ولا قوة إلا باللـه ) حقـا وحقيقـة. وكلمـا تقرب إلى حضرة الحق اكتسب من نورها حتى يصل إلى { آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا } [آل عمران : ٧ ] عندهـا يخـرق الحجاب الأول.

   ومن أهم طرق الاستعداد لتقبل العطاء الإلهي أو قل لاستنزال العطاء الحق هو التجرد وهو طرح المتعلقات الدنيوية من القلب ليفرغ من عوائق النوازل العليا، وهو كائنٌ على مستويات نذكر منها :

   المستوى الأول : هـو التجـرد مـن الدنيـا المادية المتمثلة بالجسمانيات المتصورة في الخارج، فإن دخلت القلب حجبته عن الاتصال بالروح العليا فتمنع نزول العطاء لقطع الصلة. وأسلوب التجـرد مـنها يكـون مرة بالترك وأخرى بقطع العلاقـة الباطنيـة مع بقاء العلقة الظاهرة، وتارة بالإهمال، أي حسب نوع الشيء المُتعَلق به. وكل علاقة مع غير الله أو ليست في الله أو ليست لله فهي من الإشراك الباطني، لأنها إرادة لما دون الله وليس دون الحق إلا الباطل بل ليس سوى الحق إلا الباطل .

   المسـتوى الثـاني : هو التجرد من الدنيا المعنوية ، وهي أوسع من الأولى، ومن مصاديقها الآثار المتبقية من الدنيا المادية، إذ أن بقـاء هذه الآثار تُسهل على النفس الأمارة إعادة  قواها الأولى، وكذا يؤدي بقاؤها إلى تصعيب المرحلة الثانية من مراحل القلـب، لأننا نعلم أن المرحلة السابقة هي استعداد للمرحلة اللاحقـة وأي تقصـير في المرحلة الأولى يؤدي إلى نقصان كمال المرحلـة الثانيـة.

   المسـتوى الثـالث : هـو التجـرد من الصفات، حيث وجود الصفات الإنسانية التـي نتجـت من اكتساب النفس وتطبّعهـا عـلى فعلهـا، فكان بقربهـا ظـلالٌ للنفس الأمارة والتي ينتج منها اكتساب بعض الأفعال الموجبـة لإفـراز حُجُـب تمنـع مـن بلوغ السيطرة على النفس وتخـليص الـروح مـن قيودها وانطلاقها إلى عالمها، فأصبحت هذه الصفات كالصفات الذاتية للنفس، وساعدت هذه الصفات على عدم رؤيـة النفس على حقيقتها ومنعت عن رؤية صفات الجلال بالرؤية اليقينيـة المطلوبـة، فعنـد إزالتها يكـون القـرب مـن صفات الحق، عندها يرى الإنسان بالرؤية الحقة أي بنظرة مجردة من الوجود النفسي المؤثر على الحواس الظاهرة والباطنة والذي أدى إلى عدم إبصار الأشياء على ما هي عليه. ومن هذا التجرد تنتج أمور كثيرة منها :

   الأمر الأول : خـلق فـراغ في القلب. وهو عبارة عن استعداد لنزول المعرفة والتي إما أن تكون معرفة لكمال النفس أو معرفة بالحق تعالى.

   الأمر الثـاني : تضعيف النفس الأمارة، لان في المستوى الأول من التجـرد وهـي العلاقـة، أصلها من النفس الأمارة، فقطع العلاقة يوجـب تعطيـل جانب من جوانب النفس وفي كمال تضعيفها ينتقل إلى مقامات أعلى.

   الأمر الثـالث : إن الذي يدخل في المستوى الثالث من التجرد ويصل إلى كماله سوف يرى صفات الحق، أي يصل إلى الرؤية بعين اليقيـن المؤدية إلى معايشة الصفة، فلو عرف الإنسان عجزه عن إدراك الأشياء بالمعرفـة الحقيقية عمد إلى تقديمه ومن قدم العجـز اخـذ القـدرة، فيتكـون الاعتقـاد الحـقيقي بالصفـات. فبهـذا تكون الصفات الإلهية على عدة مستويات تبعاً للإرادة الإنسانية.               
   وعليه، فإن باب العطاء الإلهي بكل مستوياته مفتوح لكل إنسان وليست هنالك أبواب من العطاء خاصة بأشخاص دون غيرهم، إنما المعول عليه هو الاستعداد فمن استحق عطاء الأنبياء أعطيه. ولكن أين هذا المُستعِد ؟.

( هذا وله الحمد على منعه قبل إعطاءه )




جديد قسم : فيوضات من الباطن

إرسال تعليق