فيوضات من الباطن
العلاقة مع الأئمة في الباطن


الباب السادس
العلاقة مع الأئمة في الباطن

   إن الأئمة (ع) هم أناس كغيرهم يأكلون ويشربون ويقومون بأكثر الأفعال البشرية. لكن الفرق الأساسي بينهم وبين البشر الآخرين أنهم وصلوا إلى حقيقة المعرفة، وتخلقوا بأخلاق الله حتى قال الأمير (ع) :

   ( نحن صفات الله ) أي وصلنا إلى درجة البقاء في الصفات الإلهية. ولكن السؤال هنا هو : أن ما وصلوا إليه أكان باستحقاقهم أم هي خصوصية من عند الله تعالى غير معتمدة على استحقاق سابق ؟ . فيكون مرمى الكلام هو العصمة وهو المقام المشهور عن الأئمة وإلا فان مقاماتهم أسمى من ذلك وتصاعدهم مستمر.

   نحن نقول بان الإمام يولد معصوماً , وعليه .. ترد علينا بعض الإشكالات :

   أولها : لو كان الإمام يولد معصوماً , فليس له أفضلية على احد.

   ثانيها : لو كان كذلك لأصبح وصوله إلى كل مقام على غير استحقاقه. ولا نستطيع أن نعزوها إلى الرحمة، لان الرحمة التفويضية هي إعطاء الدافع وإزالة المانع ليس أكثر من ذلك.

   ثالثها : لو كان كذلك لأخل هذا الفعل بالعدالة الإلهية.

   رابعها : لو كان المعصوم معصوماً منذ الولادة لتوقف مسير الكمال وأصبح متناهياً. وذلك لان درجة العصمة هي من درجات الكمال   فلو اقتصرت على بعض الناس لتوقف طريق الكمال مما يؤدي إلى توقف كل المسير، على عكس ما نشاهد من حركة الكون بكل أجزاءه، لأننا قد بينا بأن المسير بجميع أنواعه مادياً ومعنوياً إنما هو دليل على التكامل بخطيه. وهذا يؤدي إلى بطلان ملك الله مما يؤدي إلى توقف الصفات الذي يؤدي إلى احتياج الذات وهو محال.

   خامسها : لو كان كما فرضنا للزم توقف المعصوم عند مقام العصمة! والواقع أن الأئمة هم في مقامات ما فوق العصمة.

   أما لو قلنا العكس. وهو أن الأئمة غير معصومين منذ الولادة وإنما عصموا بعد حين. أي ساروا في طريق الكمال حتى وصلوا إلى مقام العصمة الواجبة. فترد علينا إشكالات أيضاً أهمها :

   أولاً : لو كان الإمام يولد غير معصوم ويُعصَم بعد حين , للزم بطلان حجة الله في حينٍ ما.

   ثانياً : لو كان كذلك فإنه من الصعب أن يصل إلى العصمة الواجبة في هذه المدة الوجيزة. والتي هي ستون أو سبعون عاماً.

   ثالثاً : لو كان كذلك لرأينا بعض الأخطاء في أقوالهم أو أفعالهم في مرحلةٍ ما.

   رابعاً : لو كان غير معصوم منذ ولادته، لصعب على الإمام حمل الولاية من بعد الإمام الآخر. ونحن نعلم أن منهم من حمل الولاية بعمر لا يساعده حتى على دخول السفر الثاني من الباطن الأول.

   خامساً : لو كان كذلك لما استطاع الإمام المتقدم إعطاء أسراره للإمام المتأخر وذلك لأن الإمام عارف , والنظام الباطني يوجب على العرفاء إعطاء أسرارهم لمن بعدهم من أهل الاستحقاق، وقد قال الإمام علي (ع) في ذلك : ( ويودعوها نظرائهم ويزرعوها في قلوب أشباههم ) فإذا كان ذلك فليس المتأخر شبيهاً للمتقدم، وليس للمتأخر استعداد على حمل أسرار المتقدم.

   فالنتيجة كِلا القسمين باطل !!.

   أما معرفة ذلك فنقول : بما أن الكمال مطلق فسيكون لا متناهياً في منبعه ومصبه، فبه يكون لا بد من خلقٍ آخر يكون مقدمة لهذا المستوى. وقد أشار تعالى إلى ذلك في كتابه وعلى لسان أولياءه , فقال سبحانه : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣)} [الأعراف : ١٧٢ - ١٧٣] هذه هي المرحلة الأولى من ذلك العالم، أما المرحلة الثانية لنفس العالم فهي : { يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [الأعراف : ٣٥] ثم تتدرج المراحل وكل هذه المراحل موجودة بجميع مستوياتها في القرآن. وإدراك الشيء هو استعداد لإدراك ما هو أعلى منه.

   النتيجة : إن قبل عالمنا هذا عوالم وقد ذكر الله تعالى بعضها في كتابه ويخصنا منها آخرها وهو عالم الذر. وعالم الذر هو من المراحل الأولى للكمال. وسمي عالم الذر كما ورد بما معناه من آدم (ع) نظر إلى ذريته فرآهم كالذر. فان الله جمعهم وأخذ منهم الميثاق والعهد. وأخذ منهم الشهادة بالوحدانية ثم برسالة محمد (ص) ثم بالولاية ثم أمرهم بكل الطاعات ونهاهم عن كل المعاصي وبيّن لهم ما ينفعهم وما يضرهم، وهذه هي المرحلة الأخيرة من عالم الذر، وإلا فاعلم : أن عالم الذر كعالم الدنيا، أي عالم متكامل قضت فيه الإنسانية وطراً، فكان فيه أنبياء ورسل،وعبادة، وقتل ونفاق وفجور، وغيرها. وليس كما يقال من أن الإنسانية وقفت أمام الحق وأخذت العهود ثم نزلت إلى الأرض ونسيت تلك العهود ! نعم قلنا أن هذه هي المرحلة الأخيرة، والترتيب العهدي كان على حسب إدراك الأرواح لكمال عالم الذر، حسب النظام المقتضي لكل عالمٍ كماله الخاص وكل من أدرك ذلك الكمال انتقل إلى ما هو أعلى منه.

   وكان هذا العالم عالماً بسيطاً خلقاً وكمالاً يتناسب والصفات والقابليات الأولى للأرواح. فكان فيه عبادات واعتقادات وكمال محدود بقابليته فكل من التزم بالأوامر الإلهية وبَلَغ كمال ذلك العالم استحق العالم الأخر وهو الدنيا.

   وأما في موقف الشهادة، فمنهم من شهد بالوحدانية وتوقف، ومنهم من شهد الشهادتين وتوقف، ومنهم من شهد بالثالثة وتوقف ومنهم من أضمر فعل القبيح، ومنهم من استصعب فعل الطاعة وغير ذلك، على تفاوت في الجانبين الزمني والجانب الفعلي وكان الناس في ذلك الحين متساوين ظاهراً لا فرق بين أحد منهم ولكن بالفرق الاستعدادي سعد مَن سعد وشقى مَن شقى. فأول من شهد بالوحدانية هم الرسول والأئمة مع غض النظر عن التسلسل، ثم الأنبياء ثم الصالحين، فاستحق الرسول الرسالة في ذلك العالم، وكذلك في العوالم السابقة لعالم الذر فكان رسولاً للأرواح وهذا معنى قوله : ( أنا نبي وآدم بين الماء والطين ). وحيث أن الأئمة وصلوا إلى درجات عالية في عوالم سابقة، نستطيع القول أنهم وصلوا إلى مقام العصمة في تلك العوالم أو الكَرّات في العالم الواحد، فكان وصولهم إلى عصر الإسلام بما حملوه من آثار إيمانية، وآخرها العصمة. فكانوا سلام الله عليهم في كل عالم يصلون إلى ذروة كماله الباطني والأخلاقي , حيث لكل مقامٍ أخلاقه الخاصة به وهي سلسلة عالم الأخلاق حتى وصلوا إلى { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم : ٤] وهي نهاية عالم الأخلاق، والخُلق العظيم هي أخلاق الله سبحانه كما جاء في الأثر.

   إذن تَحصّل من ذلك : يجب أن يولد الإمام معصوماً، لكن باستحقاقه، فهو الذي وصل إلى العصمة لا هي التي وصلت إليه، والرقي مستمر وليس من بقاء أو رجوع ( لمن كان أهلاً لذاك ) حتى وصلوا إلى غاية المعرفة وتمكنوا في حضرة الذات.

   وهذه إلمامة بسيطة عن الأئمة وعصمتهم.

الاتصال مع الأئمة :

   إن الحق سبحانه استخدم أسلوب الأسباب في النظام الظاهري، وأسلوب الحجب في النظام الباطني الخاص. وكان استخدامه لذلك الأسلوب هو لعدم قابلية الموجود على تحمل الصفات بالمباشرة لوجود الفارق النوعي بين المسبِب والمسبَب إليه، فكان نظام الأسباب أو الحجب نظاماً جذبياً تدريجياً يوصل إلى إرادة الحق بعد التخيير الحقيقي الحاصل للإنسان عن طريق هذا النظام. ومقتضى وجود هذا النظام هو وجود الإنسان في مراتب دنيا من عالم الناسوت المقتضي لجذب الإنسان من ناسوتيته والتي هي أدنى مراتب تكوين الإنسان إلى لاهوتيته التي هي أحسن تقويم، وتقريب ذلك : أن الدواء مثلاً هو احد الأسباب التي احتجبت به القدرة الإلهية، لان الشفاء هو ليس بتلك المادة المجردة وإنما هو بالقدرة المحتجبة في هذه المادة، فتحقق من ذلك فائدتان :

   الأولى : هو أن يعتقد الإنسان بأن الشفاء هو بالقدرة الموجودة في هذه المادة، أي جعل للمادة قدرة والقدرة أكيداً هي غير ما يراه، فيكون قد تقدم خطوة أو انتقل خطوة من المادة إلى ما وراءها.

   الثانية : إن القدرة الموجودة في هذه المادة هي طريق لمعرفة صفات الله بل امتداد للصفات الإلهية، فتكون باباً من أبواب الوصول إلى الكمال وعند إدراكها يتجاوز الإنسان الحجاب وفي المثال (هي المادة) فيدخل إلى الصفات الإلهية وعند رؤية الصفة تكون معرفة الموصوف فتكون رؤية على مستويات :

   المستوى الأول : رؤية الشيء وعدم رؤية الصفة. وهذه رؤية ناقصة لا تؤدي إلى المعرفة لأن الشيء هو الحجاب الذي يحجب عن الصفة إذا كان التوقف عنده، أما لو تجاوزه الإنسان فيكون الشيء هو الباب الموصل للصفة.

   المستوى الثاني : رؤية الشيء ثم رؤية الصفة. وهذه رؤية وان كانت دانية المستوى إنما هي القدم الأولى للانتقال من الجانب الإنساني إلى الجانب الإلهي.

   المستوى الثالث : هي رؤية الشيء والصفة معاً. أي رؤية المادة ومعها القدرة فيها وهي أرقى من المستوى الثاني.

   المستوى الرابع : هو رؤية الصفة ثم رؤية الشيء. أي أرى قدرة الله ثم أرى هذا الشيء وعندها تكون ( يا من دل على ذاته بذاته ) وهذا هو أرقى مستويات الرؤية المعنوية فقد تنقطع حجابية الشيء عن الصفة. ومن الصفة يستطيع الإنسان معرفة الموصوف ويكون بتجلي الأنوار القدسية والاشراقات الروحية. والتجلي على قدر استعداد المُتَجلى به والمُتَجلى له، وكلما كان المتجلى به أكثر قابلية واطهر باطناً كان التجلي به ابلغ عمقاً وأوسع ظهوراً وسطوعاً، ومن المعلوم أن اطهر الخلق وأكثرهم قابلية لتجلي أنوار الحق هم الرسول والأئمة الأطهار وهم أكثر قابلية لتنزيل العطاء من مستوى الصدور إلى مستويات البشرية والخلق.

   إذن أفضل الطرق للوصول إلى الكمال هم المعصومون عليهم السلام، والمقصود من أفضل الطرق هنا على مستوى طرق الخلق وإلا فالوصول إلى الله بالله هو الأسمى ولكن دونه خرط القتاد، فتكون الرحمة فيه مضاعفة لشفاعة المعصوم، والكائنة على قسمين:

   الأول : هو ما يعطيه المعصوم لذلك المريد.

   الثاني : هو بالاكتساب من كمال المعصوم (ع) ( من اتصل بشيء اكتسب منه ) فجعّلُ الإمام المعصوم واسطة بين طالب الكمال ومطلوبه هو أفضل طريق. ويقول الإمام الصادق (ع) : ( نحن فوق المخلوق ودون الخالق ) أي أنهم هم الواسطة بين المخلوق والخالق لان الواسطة فوق شيء ودون شيء.

   فيكون الاتصال عن طريق المعصومين هو من اسلم الطرق للوصول والحصول، وقد قال الرسول الأعظم (ص) لأمير المؤمنين : ( ثلاث أُقسم أنهن حق : انك والأوصياء من بعدك عرفاء لا يُعرف الله إلا بسبيل معرفتكم، وعرفاء لا يدخل الجنة إلا من عرفكم وعرفتموه، وعرفاء لا يدخل النار إلا من أنكركم وأنكرتموه ) وهذا القول يحصر المراتب الثلاث بهم (ع) فمن أراد طريق المعرفة سار على طريق الأئمة واتبع نهجهم الباطني , والثانية من أراد الجنة وهي عطاء الله وليس الله، سار على نهجهم الظاهري حيث مسيرهم الظاهري يوصل إلى الجنة، ومن أراد المرتبة الثالثة وهي أدنى من الأولى والثانية، سار على عكس منهجهم فيتحقق له ما أراد. وفي موضع آخر يقول الأمير (ع) :

   ( أنا وجه الله ) أي أنا الطريق الموصل لمعرفة الله سبحانه، لأن الوجه هو أدل دليل على معرفة الشيء، نعم تكون معرفة الشيء من غير الوجه لكنها إن لم تكن ناقصة فهي أدنى مرتبة، إذ من خلال الوجه تكون أدق المعارف وأضمنها، لهذا استخدم الأمير التعبير بالوجه.

   وبهذا يكون لا بد من وجود الأئمة في كل عصر وقد نص على ذلك الإمام الصادق (ع) لأنهم هم الواسطة بين الخالق والمخلوق فلو انعدمت الواسطة انقطع الاتصال وهذا محال.

أقوال الأئمة وموقعها في عالم المعنى :

   إن كل من بلغ المعرفة فقد غرف من بحر علم الله { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ } [البقرة : ٢٨٢] فيكون في ذلك المقام عارفاً بالله في الله، فيصبح لبعض أقواله باطناً، أما إذا وصل إلى الفناء الصفاتي الثاني وأعني به الحقيقي فسيكون لكل ما يصدر منه باطناً أو أكثر. وبما أن الأئمة وصلوا إلى أعلى مراتب الكمال حتى كانوا صفات الله أصبح لقولهم ظاهراً مقصوداً وباطناً مقصوداً، حتى قال الإمام الصادق (ع) :( إن الكلمة من كلامنا لتقع على سبعين وجه )، وطبعاً المقصود من السبعين الكثرة الكاثرة.

   إن ما يصدر من المعصوم يمثل مجموع المراتب التي بلغها المعصوم، وبما أنهم سلام الله عليهم في مراتب معمّقة من الكمال المستفيض من البقاء في الله والذي جعلهم في رتبة تأثير الصفات الإلهية كان لكلامهم سلطان مترشح من السلطان الإلهي، ولهذا أصبح لكلام المعصوم فائدة على مستوى السماع دون التطبيق وان كان نظام ذلك الكلام لا يعطي الفائدة إلا حين التطبيق، والسبب ما اكتسبه ذلك الكلام من كمال المعصوم المنقول إلى السامع والمؤثر به صعوداًً. وهذا لا يقتصر على كلامهم إنما كل ما يصدر منهم وإن كان مبهماً فإن له أثراً تصاعدياً على المقابل، طبعاً مع عدم وجود المانع. فإذا جَرَّدَ الإنسان قلبه وطرح القيود عن عقله وتفكر بأقوالهم كُشف له باطن أقوالهم.
  
( وله الحمد أن جعلَ لكل نهجٍ أئمته )






جديد قسم : فيوضات من الباطن

  1. الحمد لله الذي جعلني اعيش زمن عاش به محمد الصدر وعاش به شيخ منتضر الخفاجي وأسأل الله عز وجل أن يرزقني رويت شيخ منتضر الخفاجي وتعلم على يديه والله ولي التؤفيق

    ردحذف