قاعدة النصر |
قاعدة النصر
المدرك:
قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [سورة محمد: ٧ ].
المفهوم:
إن هذه القاعدة من قواعد الإمداد الإلهي وهي مقيدة بالإيمان إذ لا يستطيع الفرد أن
يقدم تقدمة لأي موجود إلا بعد الإيمان به وكذا التقدمة لله تعالى تعتمد على الإيمان
بالله من كافة وجوه الإيمان مثل الايمان بوجوده والإيمان باستحقاقه إن كان المُقَدِّم
من الأحرار أو الإيمان بجزائه إن كان المُقَدِّم من العبيد أعني المبتغين للجزاء.
إن فتح
هذا الباب هو من وجوه رحمته سبحانه لكي يستزيد الإنسان من العطاء الإلهي والمتمثل خاصة
بالعطاء الاستعلائي، ففي أي مورد أراد الإنسان نصرة الله تعالى له وتحقيق أمانيه وغاياته
فما عليه إلا أن ينصر الله تعالى، والذي جعل منه المفتاح لاستنزال النصر.
وكما هي
طبيعة القواعد التبادلية يكون نصر الله على مقدار نصرة العبد لله باستثناء وجود الرحمة.
إن الله
سبحانه فتح كل أبواب العطاء لسد كل أبواب الاحتياج لدى الإنسان ومنها باب الانتصار،
فبين لنا أن من احتاج في دنياه أو أخراه إلى الانتصار على كل معضلة سواء كانت داخل
الإنسان أو خارجه فان الباب لذلك هي نصرة الله تعالى.
ومن الواضح أنّ الله تعالى غني فلا يحتاج إلى نصرة عباده مهما
بلغوا من مراتب العقل والكمال. وإنما جعل نصرة العبد له ضرباً من ضروب العبادة واستعداداً
لإستخراج القدرة لتحمل وتقبل النصر الإلهي، وكذلك ربط للعبد بمولاه من خلال هذه الروابط
أو العلائق والمؤدية بدورها إلى مسير الإنسان على الصراط القويم. بل انه تعالى من سمو
رحمته وعلو أخلاقه ينصر عبده وان كان عبده غافلاً عن نصرته بشرط أن لا تكون نصرته لعبده
موجبة لتسافل العبد وإبعاده عن الحق وموارد ذلك كثير منها أن ينسب العبد النصر إلى
نفسه أو للأسباب أو يؤدي به إلى العجب والغرور فان هذه النواقص تمنع نصرة الله للعبد
من حيث إن الحق تعالى لا يقدّم لعباده إلا ما يكون فيه صالح لدنياهم وأخراهم إلا أن
يريد الإنسان غير ذلك بالإرادة الجدية { لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ۗ } [سورة البقرة : ٢٢٥ ].
التطبيق:
اعلم هدانا الحق وإياك إن من أراد أن ينصر نفسه بقوة القادر المطلق وان يستنزل النصر
دون أدنى خسارة أو تضحية بذي قيمة فعلية أن يفتح باب نصرة الله؛ لان كل نصرة بغير الله
ليست بنصرة وان توهم الإنسان بأن إخوانه ينصرونه أو ماله أو عقله أو قوته الجسدية أو
سلطانه فأن كل ذلك ليس إلا محض وهم صنعته نفسه وأهواءه.
وكل نصرة
أو معونة من غير جانب الحق هي نصرة خاسرة ناقصة؛ لان ما يخسره المنصور أكثر مما يعطاه
وان كان العطاء منظور والنقص غير منظور، ولان الإنسان ناقص مهما ابتعد عن مراتب النقص،
أما الحق جل جلاله فهو الكمال المطلق ولا يصدر منه إلا ما هو مطلق الكمال وخالي من
كل نقص قال تعالى:
{ أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَٰنِ ۚ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ }[سورة الملك : ٢٠ ] فسَلَبَ الحقُ نصرة كل ناصر فليس
لأحد أن ينصر أحداً إطلاقاً بل ولا أدنى مراتب النصر، بل هو تحدي صريح من قبل الله
تعالى لكل من يدعي القدرة على النصر. وكل من يرى أن هنالك ناصراً دون الله فهو مغرور
في توهمه؛ لان الغرور هو الاعتماد على شيء أما ليس له وجود حقيقي إنما وجوده هو صورة
وهمية نفسية أو ليس له تأثير حقيقي، ولو كان اعتماد الكافرين على شيء له وجود أو تأثير
حقيقي فليسوا بمغرورين. والشيء الأخر هو أن الكافرين هنا ليسوا من عبدوا الأصنام إنما
من نسب النصر إلى غير الله تعالى فهو كافر في نسبة ما لله إلى غيره.
ومن لطائف
الحق وسمة تواضعه أن ينزل الحق تعالى الى مستوى أن يكون جند لكم فينصركم في أدنى المواضع
والمواطن إذا ما نصرتموه ـ إن هذا لشيء عظيم.
هذا، وأما
بالنسبة لمواطن نصرة العبد لربه فهي كثيرة لكن نذكر منها ما يناسب هذا الموجز:
أولاً:
نصرته بنصرة دينه وإظهاره ونشر تعاليمه وتفصيل محاسنه وهداية الناس إلى هذا الدين الذي
اجتباه الله وخص به أفضل عباده ورسله محمداً) صلى الله عليه واله وسلم )، وبالتضحية من أجل تثبيت دينه والذود عن حياض
شريعته من كل طاعن مغرض ومُتقوّل مفسد.
ثانياً:
نصرته بجهاد الكفار والمنكرين له تعالى شأنه، سواء أكان الجهاد مادياً أو معنوياً أي
بالسلاح المادي أو بسلاح الفكر والتثقيف ودحض وإفشال التخطيط الرامي إلى إبعاد الخلق
عن جهة الحق.
ثالثاً: نصرته بإتباع تعاليمه التي
انزلها تحنناً منه علينا، والتي في إهمالها والإعراض عنها خذلان للغرض الأسمى من نزولها.
والحرص على تطبيق تلك التعاليم هو نصرهُ جهةَ الحق على جهة الباطل.
رابعاً:
نصرته تعالى بنصرة رسله وأولياءه، فان نصرتهم دعاء فعلي لإتباع الناس لهؤلاء الرسل
وبالتالي لتحقيق الإرادة الإلهية، وتكون نصرتهم بنشر فضائلهم ومحاسنهم وخدمتهم لله
تعالى وطاعتهم له وتحملهم الظلم والصعوبات لأجل جناب الحق وهداية الخلق.
خامساً:
نصرته بنصرة المؤمنين به والمحبين له جل جلاله فانه من النصر غير المباشر لله والذي
يؤدي إلى التعلق واليقين بالله من جهة المنصور.
سادساً:
أن تنصر الحق تعالى على الشيطان وجنده وذلك بعدم إطاعة الشيطان والانصياع لتزينه ومجارات
الخواطر الدنية والخيالات الفاسدة وإنما بالتفكر بالآلاء الربانية واستيقاف النوازل
الرحمانية.
سابعاً: تنصره على نفسك الإمارة بالسوء وهي
العدو الأول لطريق الحق والسبب الرئيس لانحراف الخلق عن طريق الإيمان والنور. ويتجسد
هذا النصر بكبح رغبات النفس والحد من شهواتها وعدم إطاعة أوامرها النازلة إلينا عن
طريق رسل الخواطر والتي غايتها النزول عن خط الإيمان{ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ }[سورة الفرقان : ٤٣] فهذه غاية النفس تسعى إليها وهي أن تكون النفس معبودك وليس الحق
وذلك عن طريق تحقيق رغباتها. ومن نَصَر جهة الحق والنور في داخله على جهة النفس والظلمة
فإن ذلك هو النصر الأعظم لله تعالى وهو أصعب أنواع النصر.
ثامناً:
أن تنصر الله تعالى بتخليص الإيمان وتمحيص الاعتقاد وذلك بعدم ظلم الله تعالى في فعله
وصفته بأن تنسب أفعال الله تعالى إلى غيره أو صفاته وذلك هو الظلم العظيم وهو خذلان
لله تعالى، ومن ذلك نسبة ما يرزقنا الله تعالى إلى البشر أو نسبة دفع البلاء إلى غيره،
لولا ذلك لهلكت ولولا فلان لضاع عيالي، إلى غير ذلك من مواطن الظلم والجحود. فمِن نصرة
الله تعالى هو أن ننسب أفعاله إليه ونشكره عليها أو نصبر عليها.
أما بالنسبة
للجزاء وهو نصر الله لعبده حسب ما تقتضي القاعدة فان موارد نصرة الله لعبده لا تكاد
تحصى، ولكن نذكر بعض ما أدركناه، ومنها:
أولا: ينصركم
بإعانتكم على أعدائكم من الكافرين وتعظيمكم في صدورهم وانزل الرهبة في قلوبهم وانزل
السكينة على قلوبكم ويخفف عنكم وطأة الجهاد.
ثانياً:
ينصركم بإزالة العوائق التي تعيق أدائكم نصرته وتهيئة أسباب نصرته تعالى ويمدكم بالقوة
الجسدية والروحية وشدة التحمل لأجله.
ثالثاً:
بإفاضة رزقه المادي والمعنوي عليكم والذي يكون خالياً من أسباب الابتعاد عنه لان جزائه
نصرتكم فيجرده من كل شائبة تضركم على الصعيدين.
رابعاً:
ينصركم نصراً أخرويا ويرفع من درجاتكم في عالم الجنان قال تعالى { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ }[سورة غافر : ٥١ ]، فينصرهم بإعطائهم ما تمنوه في
الدنيا حين نصرهم له.
خامساً:
ينصركم بزيادة الإيمان وتزينه في صدوركم وإزالة النفاق وتبغيضه إليكم.
سادساً:
يؤيدكم بنصرة المؤمنين لكم في مواطن الضعف والاحتياج.
سابعاً:
ينصركم بإنزال الملائكة لإعانتكم ـ وكما قلنا إن النصر من عند الله وليس من المؤمنين
ولا الملائكة ولا غيرها، قال تعالى { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ }[سورة ال عمران : ١٢٤ ].
ثامناً: ينصركم بتسديد خطاكم وعصمتكم من الأخطاء المهلكة.
تاسعاً:
يؤيدكم بنصره في تجاوز الاختبارات وبلوغكم ما ترجوه من مقامات القرب إليه تعالى فينصركم
على كل ما يكون سبباً في إعاقتكم عن بلوغ المقامات العليا.
عاشراً:
ينصركم على نفوسكم الإمارة بالسوء بتضعيف إرادتها وتقييد رغباتها ورؤية قبح النفس بالتالي
إلى الإدبار القلبي عن جانب النفس.
حادي عشر:
بإزالة الحجب التي تحجبكم عنه سواء الظلمانية أو النورانية. فان الحجب هي من أعداء
الإنسان لأنها تمنعه من الاتصال بمطلوبه. وفي مستوى قوة النصرة تكون نصرته تعالى بإزالة
ما يحجبه عن التقرب إلى الحق تعالى بتقوية إيمانه بالله وبأفعاله وصفاته.
تعليقات: 0
إرسال تعليق