قاعـدة الجهاد |
قاعـدة الجهاد
المدرك:
قوله تعالى: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [العنكبوت : ٦٩].
المفهوم:
الظاهر من خلال مدرك القاعدة إن الله تبارك وتعالى جعل من الجهاد سبباً لبلوغ السبل
الإلهية عامة دون تقييد سواء في الدنيا أو الآخرة. فما هو الجهاد وما هي السُبل؟.
الجهاد
كما حققه أهل اللغة: هو بذل الطاقة والجهد وتحمل المشقة من اجل تحقيق شيء ما، والجهاد
تارة يكون خارجياً وأخرى داخلياً، والخارجي تارة يكون مادياً كقتال المفسدين في الأرض
والذين يريدون إطفاء كلمة الحق، لأجل إعلاء كلمة الحق وأخرى يكون معنوياً كالأمر بالمعروف
وتعليم الجاهل وغيره.
فأما الداخلي
منه: فهو جهاد النفس للتخلص من سيطرتها وقمع شهوتها. والأول يسمى بالجهاد الأصغر كما
اصطلحوا عليه والثاني هو الجهاد الأكبر. ومراتب الجهاد ومواطنه كثيرة سواء على صعيد
الجهاد الأكبر أو الأصغر، وحين التحقيق يرجع الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر بل هو
فرع من فروعه، وذلك لان الجهاد الأصغر والذي من أوضح صوره هو جهاد المفسدين والمنحرفين
فإن الإقدام على هذا الجهاد يحتاج أن يكون للإنسان مستوى من مستويات السيطرة على نفسه
وقطع بعض تعلقاتها بالدنيا وترويضها على ذلك الفعل؛ لان النفس بطبعها ضد كل عمل إصلاح
أو صلاح وكذلك فان من طبعها حب البقاء، والإقدام على القتال او ما هو بمستواه هو مخالفة
لرغبات النفس الدنية، ولا يقدم على هذا الفعل إلا من وطن نفسه على ذلك بالجهاد الأكبر
أي قمع شهوات ورغبات النفس بحب الحياة الدنيا والتعلق بأسبابها، وإلا فمن كان له تعلق
بالدنيا وطاعة لنفسه فيها فلا يخرج للجهاد إطلاقا. حينئذٍ يكون الجهاد الأصغر مبنياً
على الجهاد الأكبر والدافع لتحقيق الجهاد الأصغر هو الجهاد الأكبر.
أما بالنسبة
للسبل التي يبلغها المؤمن بجهاده فالظاهر إن لكل باب من أبواب الجهاد سبيله الخاص به.
والسبيل:
لغة هو الطريق ويستعمل لكل ما يتوصل به إلى شيء خيراً كان أو شراً.
وفي الآية
الكريمة خص الحق تعالى السبل بما نسبه إلى نفسه وقال «سُبُلَنَا» وهي تحمل عِدة معاني:
أولاً:
السبل هي طرق الجنان ومراتبها. فان للجنان ومراتبها طرقاً عدة كلها مبنية على مرضاة
الله تعالى وغالباً ما يكون الإنسان في غفلة عنها.
ثانياً:
هي طرق الرضوان والتي هي أعلى من الجنان قال تعالى { وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ۚ } [التوبة : ٧٢] فهو أكبر من الجنان بكل ما حوت
وليس الرضوان الإلهي كلمة! بل هي مراتب في جنات الصفات خُصت بأهلها.
ثالثاً:
إن السبل التي يهدي الله إليها المجاهدين هي سبل محبة الصلاح وبغض الفساد ببذرة يبذرها
الله تعالى في قلب المجاهد.
رابعاً:
من هذه السبل هي سبل الخلاص من تأثير الشيطان وهواجس تزينه، فيلهم الله المجاهدين في
الله تلك السبل.
خامساً: سبل ذكر الله تعالى، والهداية الإلهية ليست كشفاً وبياناً
معرفياً فحسب وإنما توفيق وإعطاء دافع للذكر وإزالة كل الموانع عنه.
سادساً: سبل التفكر في الملك والملكوت
وهي السبل الفعلية المؤدية إلى ارفع المقامات والمنازل.
سابعاً:
سبل الإيمان وهي شعبه كما ورد إن للإيمان سبعين شعبة وكما أوضحنا يهيئ الله تعالى عبده
المجاهد لتقبل هذه المراتب والعمل بها بأيسر ما يكون.
ثامناً:
سبل التوحيد الحق الخالص والخروج من التوحيد الساذج ودخول مدارج التوحيد المعمق. وكثير
من السبل الموصلة إليه جل جلاله ورضوانه. لكن كل ذلك لا يتحصل إلا بالجهاد فيه؛ لأنه
تعالى بين المقدمة وهي{ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا } [العنكبوت : ٦٩] أي في الله لذلك أصبحت النتيجة { لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ } [العنكبوت : ٦٩] أي سبل الله تعالى ففيها تعادلية
وإلا فمن يجاهد في غير الله فسوف يهديه الله سبل ذلك الغير فتفطن.
التطبيق:
قلنا فيما سبق إن الجهاد قسمان:
القسم الأول : الجهاد الخارجي والمتمثل بنصرة دينه وتثبيت كلمته
ودفع كل ما يؤدي إلى البعد عن ذلك، وأوضح مصاديقه هو جهاد المفسدين والمنافقين، وقد
اوجب الله تعالى هذا الجهاد على المؤمنين كافة إلا من خرج بعذر كأولي الضرر وغيرهم
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ } [التحريم : ٩] فهذا هو القسم
الأول من الجهاد والذي جعله الله تعالى اقصر طرق الجنة وأسرعها قال الرسول الأعظم:
(( السيوف مفاتيح الجنة )) [ميزان الحكمة / باب الجهاد حديث ٢٦٨٦ ] ولا يتهيأ
هذا الجهاد إلا لمن جرده الله من التعلق بحطام الدنيا وأودع في قلبه الشجاعة اللازمة
لذلك فليس كل من أراد الجنان اقبل على الجهاد وان كان صاحب إيمان وورع إنما كما قال
الأمير ( عليه السلام ): (( إن الجهاد باب من أبواب الجنة
فتحه الله لخاصة أولياءه )) [ ميزان الحكمة / باب الجهاد حديث ٢٦٦٥ ].
ويعتمد
هذا الجهاد على ركائز أساسية يجب أن تتوفر في المؤمن المريد للجهاد منها:
أولاً:
أن تكون نية جهاده خالصة لله تعالى من شوائب الغيرية أو المصالح الدنيوية كالرفعة والغنائم
والثناء وغيره فان هذه الشوائب تخرج الجهاد عن مؤداه الحقيقي.
ثانياً:
قوة القلب المستفادة من عمق الهدف المُجاهَد من اجله والمعطي لقوة العزيمة والإرادة،
وإلا فبدون ذلك يكون مصداقاً لقوله تعالى:{ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا } [التوبة : ٤٧] والعدة لا تقتصر على العُدة المادية
بل المعنوية أهم من المادية كما ذكرنا وما سوف نذكر.
ولمّا كانت
حالهم هذه من ضعف الهمة وغشاوة الهدف، أمسى خروجهم مفسدة فانزل الله تعالى التثاقل
في نفوسكم وزادهم غشاوة على قلوبهم فاستثقلوا الخروج وبالتالي (( اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ )).
ثالثاً:
الاطمئنان للعواقب وأعلاها هو القتل فيكون قلبه مطمئناً للوعد الإلهي وما أعده الله
تعالى للشهداء من جزيل عطائه ووفير نعمائه فينظر إلى ذلك بعين اليقين الداعي للحرص
على الموت أكثر من الحرص على الحياة.
رابعاً:
عدم الالتفات إلى مخلفاته من الأهل والمال والولد وغيرها من العطاء الأدنى، وذلك بان
يوكل بهم من يقوم بحقوقهم على أحسن الوجوه والله خير وكيل فيخلف الله على ماله وأهله،
فيولد له ذلك اطمئنان قلبه وسكون نفسه.
وكذلك من
الجهاد الخارجي جهاد المنحرفين والفساق من المسلمين والمتمثل بالأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر فهو كذلك يحتاج إلى جهد خارجي وآخر داخلي من التخلي عن الخوف والتجرد من
حب إرضاء الناس بل يؤدي أحياناً إلى الأذى وأحياناً إلى التضحية بشيء من دنياه. وهو
أدني من الجهاد الأول حسب الترتيب يقول الأمير ( عليه السلام ): (( ما تقلبون عليه من الجهاد بأيديكم ثم بألسنتكم ثم بقلوبكم، فمن لم
يعرف بقلبه معروفاً ولم ينكر منكراً قُلِبَ فجعل أعلاه أسفله )) [ ميزان الحكمة / باب الجهاد حديث ٢٦٩٨ ] والجهاد
اللساني أو القلبي يدل على صلاح سريرة الإنسان.
أما ترك
الجهاد القلبي وهو أدنى مراتب الجهاد فإنه يولد مفسدة، وذلك؛ لأن الاستنكار القلبي
للمنكَر هو إبعاد ذلك المنكَر عن ساحة القلب لأنه آخر مراحل الدفاع عن قلب المؤمن فان
لم ينكره أثرَّ في قلبه فان توالت المنكرات ولم ينكرها استساغها القلب عندئذ يُقلب
القلب فيرى إن لا بأس في المنكر. فالجهاد القلبي ليس من اجل الإسلام ولا من اجل الله
تعالى وإنما هو من اجل حفاظ المجاهد على إيمانه هو لا غيره.
أما القسم
الثاني من الجهاد: وهو الجهاد الداخلي: هو الأكبر عند الله تعالى والأعظم أجرا والأبلغ
نتيجةً، قال في حديث المعراج في صفة أهل الخير وأهل الآخرة: (( يموت الناس مرة ويموت احدهم سبعين
مرة من مجاهدة أنفسهم ومخالفة هواهم والشيطان الذي يجري في عروقهم )) [ ميزان الحكمة / باب الجهاد حديث ٢٧٥٦ ]، ويتمثل هذا الجهاد بجهاد النفس
الأمارة وقمع أهوائها وكبح شهواتها وإهمال مطالبها وكذلك مخالفة التزيين الشيطاني وعدم
الالتفات إلى وسواسه، فينال بذلك المرء منتهى الغايات وتفتح له أبواب السماوات وتنزل
على قلبه مفتاح الحكمة ويزداد قرباً لربه جل وعلا قال تعالى: { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ } [النازعات : ٤١] وقال جل وعلا { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } [آل عمران : ١٤٢]. وقد ورد حث شديد من قبل أهل
البيت ( عليهم السلام ) على هذا المفهوم إلى درجة إن
ما روي عنهم في جهاد النفس أكثر مما روي في جهاد المفسدين ومن ذلك قول الرسول الأعظم ) صلى الله عليه واله وسلم ): (( أفضل الجهاد
أن تجاهد نفسك وهواك في ذات الله )) [ ميزان الحكمة / باب الجهاد حديث ٢٧٥٠ ] ؛ لان كل أقسام الجهاد تعتمد على
مغالبة النفس وترويضها على قبول الجهاد ولا يكون ذلك إلا بمجاهدة النفس ومخالفة أوامرها.
وكذلك قول
أمير المؤمنين ( عليه السلام ): (( جاهدوا أنفسكم على شهواتكم تحِلَّ قلوبكم الحكمة )) [ ميزان الحكمة / باب الجهاد حديث ٢٧٦٧ ] وقوله ( عليه السلام ): (( جاهدوا أنفسكم بقلة الطعام والشراب تظلكم الملائكة
ويفر عنكم الشيطان )) [ ميزان الحكمة / باب الجهاد حديث ٢٧٦٨ ] لان
البطن إذا جاع في سبيل الله تنور القلب بنور الله. وقد شدد الإمام علي في ذلك إذ يقول ( عليه السلام ) : (( ينبغي للعاقل أن لا يخلو في كل حالة من طاعة ربه ومجاهدة نفسه )) [ ميزان الحكمة / باب الجهاد حديث ٢٧٣٤ ] وحقيق أن يكون هذا الكلام للعاقل فحسب!.
واعلم،
إن الجهاد الأكبر يكون على مستويين:
المستوى
الأول: هو الجهاد على المستوى التشريعي: ونقصد به مجاهدة النفس لأجل أداء الواجبات
واجتناب المحرمات، فان غاية النفس هو النزول بالإنسان إلى عالم الفساد والمحرمات بتحقيق
رغباتها وشهواتها عن طريق رسل خواطرها وخيالاتها الفاسدة وانصياع الإنسان إلى إرادة
النفس يؤدي به إلى البعد عن جهة الحق وعصيان كل أمر ألهى، بل إن كل عصيان يصدر من الإنسان
سببه النفس الإمارة بالسوء وليس الشيطان إلا مساعد لأهواء النفس ومزين لرغباتها، لذلك
ترى التثاقل النفسي في أداء العبادات وصعوبة في اجتناب المحرمات. وبما إن الله تعالى
اوجب على الإنسان عبادته بأداء أوامره واجتناب نواهيه إذن اوجب جهاد النفس في ذلك؛
إذ لا طاعة إلا بمعصية أي لا طاعة للحق إلا بمعصية النفس إذ إرادة النفس على عكس إرادة
الحق وذلك من المصالح المهمة لوجودها قال تعالى: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } [محمد : ٣١].
نبلوكم
بوجود النفس الأمارة بالسوء لنعلم بصدور الأفعال منكم، وظهور المجاهدين لأنفسهم منكم
والصابرين على طاعة الله فيما أراد منهم. وقد قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في صفة رسول الله ) صلى الله عليه واله وسلم ): (( ما عرض له أمران إلا اخذ بأشدهما )) أي أشدهما
على نفسه.
المستوى الثاني: هو الجهاد الإيماني. وهو جهاد النفس في مراتب
فوق الواجبات والمحرمات، والمستفاد منه الرقي في درجات الإيمان وزيادة القرب من الحق
تعالى والبعد عن عالم النفس والفساد وبالتالي الترقي في منازل الآخرة. ومحل ذلك هو
المباحات فينظر في كل أفعاله وتصرفاته إلى ما تهوى نفسه فيخالفها ويروضها ويجاهدها
لفعل ما لا تريد لأنه كما قلنا إن النفس تنجذب إلى الجهة السفلية وان الحق تعالى وعدنا
الجنة بمخالفة أهواء النفس فتكون المخالفة لا لان النفس هي نفس أنما طاعة لله تعالى
وتزلفاً إليه. قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : (( لا فضيلة كالجهاد ولا جهاد كمجاهدة الهوى )) [ ميزان الحكمة / باب الجهاد حديث ٢٧٤٧ ] وقال ( عليه السلام ) : (( إن المؤمن معنيٌّ بمجاهدة نفسه ليغلبها على هواها. فمرة يقيم
أوَدَها ويخالف هواها في محبة الله ومرة تصرعه نفسه فيتبع هواها، فينعشه الله فينتعش
ويُقيل الله عثرته فيتذكر )) [ ميزان الحكمة / باب الجهاد حديث ٢٧٣٨ ] .
واعلم إن هذا الجهاد هو أصعب أنواع الجهاد لان للنفس دخلاً في
اغلب أفعال الإنسان بل حتى بعض الأفعال العبادية لا تخلو من تدخل النفس لكي تفسدها
تارة بالرياء وأخرى بالعجب وأخرى بحب الظهور وهلم جرا. لذلك يصعب على الإنسان أن يجرد
نيته لله تعالى مع وجود نفس قوية. لذا فان مجاهدة النفس توصل إلى كسر شوكة النفس والتحرر
من أدناس النفس ومصالحها الدنية.
عند ذلك
يستحق المؤمن أن تفتح له سبل الله تعالى؛ لأنه أصبح بالطهارة الملائمة لدخول حضرة صفاته.
تعليقات: 0
إرسال تعليق