قاعدة النسيان
قاعدة النسيان

قاعدة النسيان



     المدرك: قوله تعالى: { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ۗ }  [التوبة : ٦٧]

     المفهوم: قبل أن نبدأ ببيان المفهوم يستحسن أن نلقي شيئاً من الضوء على مسألة نسبة الصفات الإنسانية إلى الحق جل وعلا. فمن المعلوم الذي لا يقبل التبديل أنَّ الحق تعالى ليس كمثله شيء فلا يشابهه أحد من مخلوقاته ولا يصح أن تصفه بصفات المخلوقين وان تشابهت الصفات ظاهراً. وكل ما يطرأ على الخلق من تغيير وتبديل لا يطرأ على الحق تعالى إذ لا سلطة إلا سلطته، وما يطرأ على الخلق بسبب وجود من هو غالب عليه أما الحق تعالى، فليس بعده شيء إنما كل ما في الوجود هو سبحانه وصفاته وأفعاله المتمثلة بالخلق فليس إلا تلك وكلها تحت سلطته. وهذه المقدمة لا يختلف فيها اثنان فالله تعالى ليس كمثله شيء كما وصف نفسه. لكن السؤال هو إن الله تعالى في كتابه العزيز نسب بعض صفات المخلوقين إلى نفسه ولم يتعالَ عنها، منها صفة الرضا والغضب والنسيان والتحنن وغيرها! فكيف نوفق بين ما بينه الحق تعالى عن نفسه بقوله ليس كمثله شيء وبين ما بينه من انه يغضب وينسى ويرضى ويعطف؟!. والجواب على هذا الإشكال من وجوه:

    الوجه الأول: وهو الذي اعتمده اغلب علماء الكلام من إن صفات المخلوقين التي نسبها الله تعالى إليه تطابق الصفات لفظاً وتختلف معنى فقوله نسيهم كما في مدرك القاعدة لا بمعنى النسيان الطارئ على البشر وإنما يقصد به الإهمال وهو وجه لا بأس به.

    الوجه الثاني: وهو إن الحق تعالى في هذه المواضع التي نسب صفات المخلوق إليه انه تعالى يتكلم بلسان من يلي أمر البشر أي الموكلون على البشر وهم خلق وكّلهم الله بهذه المهمة فلا يتكلم بلسانه وإنما بلسان خلقه من الملائكة الموكلون والأرواح المجردة والأولياء وغيرهم.

     الوجه الثالث: التنزل ألمرتبي لمستوى المخاَطب. فلا إدراك ولا اخذ دون تساوي المستوى أو تلاقي المستويين في نقطة واحدة. والتنزل تنقل من مستوى ما لا يدرك المخاطب إلى مستوى الإدراك وإلا فلا حجة، ويكون تارة بوجود خارجي وأخرى بنفس الوجود. ومن هذا التنزل ينتج انتساب تلك الصفات لا بطروئها على الخالق تعالى عن ذلك إنما على مستوى المخلوق الذي خاطب منه الخالق عباده، فتجتمع الصفتان ولا ضير فالأولى بالمقام الحق والثانية بالتنزيل الوهمي.

    والذي يهمنا بعد هذه المقدمة هو الأثر الفعلي لهذا النسيان والأسباب الداعية له.

     فنقول: إن هذه القاعدة هي قاعدة تبادلية قائمة على ظل التوحيد وجوهرها إن من ينسَ الحق تعالى بأي صورة فقد عرّض نفسه لنسيان الحق إليه. والنسيان معناه كما ذكره أهل اللغة هو ترك الإنسان ضبط ما استودع إما لضعف قلبه، وإما غفلة، وإما عن قصد حتى يُحذف عن القلب ذكره. أما الضرب الأول من النسيان فهو مرفوع ولا يؤخذ الإنسان به، لكن محل الكلام هو الثالث والثاني إن كانت مقدماته عمديه لان الأول خارج عن سلطة الإنسان أنما يكون بتأثير خارجي فتارة يكون المؤثر والمسبب في النسيان هو الله سبحانه وتعالى وكثيراً ما يُنسي عبده بعض الأشياء أو الأمور التي يرى في نسيانها مصلحة لعبده فيمسحها الله من ساحة قلبه قال تعالى: { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة : ١٠٦] أي نسلبها من القلوب. وتارة ينسب إلى الشيطان { وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ } [الكهف : ٦٣] والناس على العموم ينسبون كل نسيانٍ إلى الشيطان جهلاً منهم؛ لأنهم يرون إن النسيان هو من ضروب المفاسد والشرور؛ لان فيه فوات منفعة! علماً إن ما يحصل من النسيان المنتسب إلى الشيطان قليل جداً. وان اغلب موارد النسيان هي إلهية لأجل دفع مفاسد يجهلها الإنسان فيمُنّ الله تعالى على عبده بالنسيان والغفلة عن تلك الأمور.

     التطبيق: هناك موارد كثيرة تنسي الإنسان الجانب الإلهي او بعض مفرداته وتسدل عليه شيء من حجب الغفلة وبالتالي تساهم في إبعاده عن جناب الحق وجهة النور، ومن هذه الموارد:

     أولاً: عدم الاهتمام بالجانب الإلهي وذلك لاستقرار النفوس على الجانب الدنيوي والاطمئنان بها حتى أخذت جُل أو كل ما لديهم من اهتمام. فأصبح مطلوبهم الأول هي الحظوظ الدنيوية وحُملت على أقصى درجات الجد، أما الجانب الإلهي فكان لهؤلاء جانب ثانوي اعتيادي صوري وليس حقيقياً عندئذ دب إلى قلوبهم النسيان والغفلة عن كل ما له صلة بذلك الجانب، قال تعالى: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۚ فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَٰذَا } [الأعراف : ٥١] .

     ثانياً: مطاوعة الشيطان والانجرار إلى مخططاته والانصياع إلى تزينه يوصل إلى الغفلة والنسيان عن جناب الحق تعالى إذ على قدر الاهتمام يكون الذكر والتذكر فسلوك طريق الشيطان موصل إلى نسيان طريق الحق بالضرورة قال تعالى: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ ۚ } [المجادلة : ١٩]، ًبإرادتهم الجاذبة للشيطان وإلا فليس للشيطان تلك السلطة وهي أن ينسيَهم ذكر الله دون وجود استعداد من قِبل الإنسان لذلك . فالنسيان عائد إلى الاستحواذ والاستحواذ عائد إلى مطاوعة الشيطان.

     ثالثاً: عدم وجود المحاسبة والاستغفار؛ لان المحاسبة داعية للتذكر واللجوء إلى الحق تعالى عن طريق الشكر أو الاستغفار وهما ما تؤول إليه المحاسبة عادة. فإهمال المرء لمحاسبة نفسه وعدم معرفة ما صدر منه من سيئات أو حسنات فان ذلك يوصل إلى الغفلة والنسيان قال تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ۚ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۖ وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا } [الكهف : ٥٧]

     والمعنى إن فعلهم من الظلم والإعراض والتغافل عن الذنوب كان استعداداً لنزول الغفلة الكبرى المطبقة والتي شملت وأغلقت كل مسامعهم. وبالتالي فلن يهتدوا أبدا. لان الهداية تحتاج إلى فهم وقناعة واطمئنان وكلها أمور قلبية والقلب مقفل بل الهداية تحتاج سمع ووعي وقد أغلق الله طريق السمع فليس من هداية أبدا.

     رابعاً: عدم الوعي ألاعتقادي أو الفعلي لما يفتح الحق تعالى لعبده، والإدبار عن ذلك أو التهاون به يؤدي إلى الغفلة والنسيان فإن المبادرة لتطبيق الأفعال الإيمانية والتعجيل بها سببٌ كبيرٌ لإزالة حجب الغفلة والنسيان. قال تعالى: { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ } [الأعراف : ١٦٥].

     خامساً: الانغماس بالملذات النفسية والحظوظ الدنيوية والالتفات التام إليها المؤدي تلقائياً إلى نسيان الآخرة والغفلة عن متطلباتها وموجبات وصولها قال تعالى:
فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ ۖ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [السجدة : ١٤].


     سادساً: عدم الالتفات إلى الآيات الإلهية والتفاعل معها عن طريق التفكر في الآيات الداعية لذلك والتوحيد والتحميد عن طريق الآيات المؤدية إلى ذلك، وكذلك التعظيم والتسبيح لله عن طريق الآيات التي جعلها الله دافعة لذلك، فعدم الالتفات إلى الآيات الإلهية وإعطائها حقوقها من التفكر والإنابة والتنزيه والتسبيح وغيرها هو نسيان وغفلة للموارد الحقة ولا يوصل إلا إلى ما هو أدهى وأمر قال تعالى: قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (١٢٥قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَىٰ [طه : ١٢٦].


     سابعاً: ومن الموارد المنسية الإنسان للجانب الإلهي هو الخوض في الباطل من حديث الدنيا والاستهزاء بالعباد والسخرية من المؤمنين وغيرها فان كل ذلك يوجب الغفلة ويبعد القلب عن الذكر والتذكر قال تعالى: { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون : ١١٠] لأنهم انشغلوا بذكر الناس وأغفلوا ذكر الله تعالى فقربوا من الناس وبعدوا عن الله تعالى. فهذه بعض موارد نسيان الإنسان لربه. وبالتالي فإن الله تعالى حسب القاعدة جعل كل من غفل عنه ونسيه جعله عرضة للنسيان الإلهي أي جعله منسياً في إرادة الحق للخير. ومن أوجه النسيان الإلهي للعبد هي:

     أولاً: إهمال الله تعالى للعبد الناسي وإبقاؤه حسب مرتبته السافلة؛ إذ ليس من ذكر ألهى لذلك العبد يرفعه عن تلك المرتبة السافلة فيكون مهملاً في تلك الدرجة، قال تعالى: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ } [الجاثية : ٣٤] .

     ثانياً: أن من ضمن النسيان الإلهي للعبد المقصّر. هو انه ينسيه الله تعالى نفسه فلا يلتفت إلى مصالحها بل لا يدرك مصالحها من مفاسدها فينسى نفسه بشواغل حاجبة عن ذلك فيتردى في رجس الفسوق، قال تعالى:  وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [الحشر :  ١٩] . وهي نتيجة حتمية إن من ينسَ نفسه من الابتعاد عن الفسوق وينسَ الاهتمام بها من حيث التطهير والرقي فليس بواصل إلا إلى مرتبة الفسق، بالإهمال الناشئ من النسيان.

     ثالثاً: يتمثل النسيان الإلهي للعبد من رحمة الله تعالى يوم القيامة. فلا تدركه الرحمة بل ولا يذكر من أي جهة عليا لا بالشفاعة ولا بالاستغفار فيكون مصيره الخذلان والخسران، قال تعالى: { فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ } [الأعراف : ٥١].

     رابعاً: من النسيان الإلهي هو الابتعاد عن الالتفات إلى الجانب الحق. وذلك بإزالة الموانع عن تحقيق الرغبات ومتع الحياة فيكون ذلك سبباً أخراً للابتعاد عن الذكر وتذكر الجانب الإلهي، قال تعالى: { وَلَٰكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّىٰ نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا } [الفرقان : ١٨].

خامساً: من ذلك إغلاق البصيرة أي إغلاق منافذ عالم الروح وقطع الاتصال به وعدم نزول أي من فيض الحق تعالى فيمسي الفرد مقطوع الصلة بعالم النور ما يؤدي به إلى العمى الكلي حيث لا يبصر من الحق شيئاً، قال تعالى: قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا } [طه : ١٢٥] . ولا تنحصر أوجه نسيان الله تعالى لمن ينساه بما ذكرنا، وعلى قدر نسيان العبد لربه يستحق أن ينسى.

(وله الفضل والحمد أن فتح لنا أبواب معرفة مرضاته).






جديد قسم : قواعد الايمان من بين يدي القرآن

إرسال تعليق