ومضات تربوية
أقصر الطرق


أقصر الطرق

  إن محبة الانسان للرب ليست كمحبة أحدنا للآخر، وإنما هي أسس وأبواب تفتح أمام الانسان مراتب من الارتقاء النفسي والقلبي والعقلي، وتزيل الكثير من الصفات الدنيا المتمركزة في النفس أو القلب، وهي توجب محبة الرب لهذا الانسان، التي تعني التقرب الحقيقي اليه. وكذلك فإن هذه المحبة كفيلة بإزالة كل آلام الانسان؛ لأن سبب شقاء الانسان وآلامه ناشئ من محبته وتعلقه بالماديات والجسمانيات القابلة للموت والزوال، والارتقاء في سُلّم الإيمان هو ابتعاد عن محبة الاشياء الزائلة وذلك من خلال رؤية قيمتها الحقيقية وبالتالي زوال تأثيرها.
    إن طُرق التعلق بالرب وزيادة محبته هي الغاية التي تبحث عنها روح الإنسان؛ لذلك وجب على كل مؤمن بل كل إنسان أن يكون له نصيب من المحبة والتي ينبغي أن تكون هي الدافع والمحرك لأفعاله وتصرفاته.
    ولأجل تحصيل محبة الرب للإنسان ينبغي أن يسارع الانسان إلى محبة الرب، لان قلب الانسان المؤمن إذا فقد محبة الرب سوف يبدأ ايمانه بالضعف التدريجي وتقل اعمال الخير لديه لأنه خسر الدافع الاكبر لفعل الخير او الزيادة منه.
   فلا يظن الانسان إن محبة الرب هي من الامور الثانوية! بل العقل يحكم بأن من أعطاك دون أن ينتظر منك شيئاً، ونظر إلى مصلحتك قبل أن ينظر إلى مصلحته، وتغاضى عن أخطائك بحقه، وتواضع إليك، ونزل الى مستواك وكلمك، وضحى من أجلك بأغلى ما عنده من أحباءه وأهله وأولياءه، وأوجد ما لم يكن موجود لأجلك، وسخر خلقه لخدمتك، واوجد خزائنه لخدمتك، ورآك تعصيه وتخالفه فسترك عن اعين الناظرين، وقدم لك ما لم يقدمه لك أقرب قريب ولا أصدق صديق ولا أوفى حبيب، ألا يحكم العقل والقلب وكل جوارحك بوجوب محبته؟ وان كانت محبتك ليس هذا موضعها فأين تضعها؟ وما الفائدة منها؟ ولماذا وجِدتْ؟ أوجدت من اجل أن نحب بها المال الذي لا نعرف ضره من نفعه؟ أم وجدت لحب الناس الذين لا يفعلوا لك شيئاً إلا أن يكون لهم فيه مصلحة وان لم يحصلوا منك على مصلحتهم ابتعدوا عنك واظهروا مساوئك! اجب بصدق؟؟ فإن وَجدتَ في كل الوجود شيئاً يستحق المحبة غير الرب فتمسك به وأنت غير ملام على ذلك! ولكن أين هذا؟ وما الذي فعله لك أكثر مما فعله الرب اليك؟ وهل فعله بإرادته التامة أم بإرادة الرب؟ أبقوته أم بقوة الرب؟ أبفكرهِ أم بإلهام الرب؟.
   لا اقول لا تحب الخلق! لا... وانما اجعل محبتك للرب إلهك هي الطريق لمحبة ما صنعت يداه، وليس ان تحب الخلق بعيداً عن الرب إلهك.
   إذن المقدمات الحقيقية والدواعي العقلائية لحب الانسان لربه موجودة وكثيرة وفوق حد الاحصاء ـ مع الالتفات لها طبعاً ـ.
   قد يسأل الانسان انني ان اردت ان أحب الرب ـ له المجدـ أو اردت ان أزيد من محبتي له او اردت ان ادخل في محبته الخاصة فهل هناك طرق او ابواب توصلني لتحقيق هذه الغاية؟
الجواب: ان ربنا عندما انزلنا الى الارض اول شيء اراده لنا هو عدم الانقطاع عنه، وذلك من خلال ايجاد صلة نتصل من خلالها به وهي العلاقة الرابطة بيننا، فأوجد عدة روابط منها رابطة الخوف ورابطة الرغبة بما عنده ورابطة المعرفة به وغيرها، لكن الرابطة التي فضلها على غيرها والتي نحن نفضلها على غيرها من خلال ارتباطنا به او ارتباطنا ببعضنا هي رابطة المحبة فهي الرابطة الوحيدة الخالية من لوث الطمع والمصالح، فأوجد لنا طرق وصنع لنا ابواب من خلالها نصل الى هذه الرابطة وننميها ونقويها ونصل من خلالها بعقولنا وقلوبنا الى المحبة الحقيقة المجردة من كل شيء.
   ونذكر بعض هذه الابواب:
 الباب الأول: محبة الله بسبب عطائه: وذلك ضمن النظام القلبي للإنسان، وهو حب الانسان لمن يحسن اليه، حيث طبّعت القلوب على محبة من يُعطيها، فلم نسمع إن إنساناً كره إنساناً لأنه أعطاه ما ينفعه! فهي طبيعة تكوينية وليست اكتسابيه.
 وتزداد محبة الإنسان لغيره كلما زاد إحسان ذلك الغير وكثر عطاءه وقلَّ أخذه، ولو تتبعنا إحسان من أحسن إلينا لوجدنا ان الرب أول من انعم وآخر من ختم، ولولا نعمتهِ وهدايته ما انعم عليك أحد.
 ثم ان كل ما قدمه لك انسان أنت قادر عليه وكل ما قدمه لك الرب أنت عاجز عنه، وان كل ما قدمه لك انسان فله فيه شيءٌ من جلب منفعة أو دفع مضرة، وأما ما يعطيك اياه الرب فلا يترقب مقابله شيء منك. فمن رأى نعم الرب وعطاياه لا يسعه إلا أن يحب الرب تعالى لأجل ذلك.
الباب الثاني: محبة الرب بسبب أفعاله: فلو تجاوز الإنسان بنظره الاسباب فسيرى الأفعال الإلهية المتوالية في كل حال من احواله، كحفظه من الاخطار، وستره حينما يخطأ، وتسهيل أموره، ورفع منزلته في الدنيا بين الناس، وإعطاءه الكثير بالقليل، وتنبيهه حين الغفلة، وتقديم الأصلح له حتى لو جزع الانسان من ذلك، بل كل ما يواجهك من فعل غيرك فإن الرب الرؤوف إن رأى فيه فائدة لك أمضاه وان لم يرى فيه فائدة لك أوقف حدوثه. فلو رأى الإنسان كل ذلك فسيكون داعي لمحبة أكبر.
الباب الثالث: محبة الرب بسبب صفاته وأخلاقه: ومن المعلوم إن الصفات والأخلاق من الدواعي الكبرى للمحبة وعلى ذلك تقيس البشرية وتقاس. فمن نظر إلى أخلاق الرب وصفاته فسوف يجد مواضع المحبة والتي تجبر الانسان على أن يضع محبته فيها؛ لأن أهلية الرب للمحبة ليس لأنه يحيي ويميت ويعطي ويمنع بل لسمو أخلاقه والتي لو تخلق بها غيره لأستحق المحبة، ومن أبسط أخلاقه أن الانسان يفعل الاخطاء ويتجاوز اوامر الرب إلهه ويكون قد استحق العقوبة لكن الرب إلهك ينظر الى هذه العقوبة فان كانت فيها فائدة لك انزلها لأجل فائدتك وان لم يجد فيها فائدة لك دفعها عنك، فلا ينظر كما نحن ننظر للمخطئ بحقنا انه يجب ان يعاقب لان الانتقام والتشفي ليست من اخلاقه بل ينظر بعين الاب لابنه. ثم انه ما اوجدنا الا لأنه احبنا قبل ذلك، بل انه فضلنا على كثير ممن فضلناهم عليه!.
    فمعرفة اخلاق وصفات الرب هو طريق حقيقي لمحبته، لمن كان له قلب سليم وفكر مستقيم.
   يبقى امر وهو هل تترجم هذه المحبة الى افعال؟
للجواب على ذلك نقول: المحبة هي ارادة ترتبط بشوق لشيء ما وذلك عندما يطابق هذا الشيء مراد قلب الانسان ويكون اما بسبب صورة ذلك الشيء او فعله او صفته، وهذه المحبة ستكون محرك للمحب لان يقدم ما يريد محبوبه او ما يعتقد انه يسعد محبوبه، فأننا إذا أحببنا انسان اخر فسوف نقدم له أفضل ما لدينا، كذلك فان من أحب ربه فيجب ان ينظر ما الذي يريده هذا الرب وما الذي يسعده فيقدمه له ويترك ما يعتقد انه يزعج ربه.
   واقل شيء تقدمه لربك الذي احببته هو ان تكلم الناس عن جمال اخلاقه وحسن صفاته كما أنك لو احببت فتاة فسوف تتباهى بجمالها وذكائها، فمن أحب شيء أكثر من الحديث عنه.  
ثم ان رابط المحبة هو رابط اكتساب فمن أحب شخصا وتعلق به فسوف يكتسب من صفاته سواء شعر بذلك او لم يشعر، ومن أحب الرب حبا حقيقيا فسوف يكتسب من صفات الرب واخلاقه وليس في الرب الا ما هو كامل.
   فاذا تحققت هذه المحبة للرب في قلب الانسان فسوف يبادله الرب هذه المحبة بل سوف تكون محبته للإنسان أكبر، عندها سيتدرج الانسان في عالم المحبة حتى يصل الى ان يشعر بكل احوال محبوبه وبكل ما يريده محبوبه ولو لم ينطق بذلك.







جديد قسم : ومضات تربوية

إرسال تعليق