سماحة الاب المربي الشيخ منتظر الخفاجي
فيوضات من الباطن


بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدي محمد وآله الطاهرين وأنبياء رب العالمين

المقدمة

   إن كمال الدين الحق هو أن يوصل أهله إلى غاية وجوده ، وبما أن دين الإسلام اشتمل على كل كمالات الديانات الأخرى وناسب جميع المستويات المحتمل دخولها إليه بدليل قوله تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [المائدة : ٣] والخطاب عام لكل البشر وليس فقط لمن هو داخل إطار هذا الدين. وإكماله تعالى لهذا الدين هو باحتوائه على كل المراتب الكمالية التي توصل إلى الكمال المطلق بالصلة الرجوعية بعد التكميل، لهذا اقتضى أن يحوي هذا الدين على عدة أنظمة تتساوق والتعدد النظامي البشري والتي من أصولها تنظيم الحياة المادية للإنسان، بحيث توصله إلى أكمل الوجوه والمراتب المادية والتي غاية كمالها بتجاوزها، وكذلك من أصولها تنظيم الحياة المعنوية والتي يترقى من خلالها الفرد والمجتمع إلى أعلى المراتب المعنوية الممكنة لتكوينه. لذلك كان للإسلام ظاهراً وهو التشريع الأكمل الذي يوصل الحياة الظاهرية إلى أكمل مرتبة ممكنة، وأيضاً كان له باطناً وهو التشريع الباطني أي المعنوي ـ إن جاز أن نسميه تشريعاً. يطور من خلاله الفرد جوانبه المعنوية حتى يتصل من خلاله بالعالَم المشرّع، أي عالم المعنى. وهذا مستوى من مستويات فهم الإكمال الديني الذي أقره الحق تعالى وبينه لخلقه. ولا يعني هذا أن هنالك تشريعان مستقلان حواهما الإسلام، بل أحدهما عين الآخر إنما الاختلاف مرتبي ليس أكثر، لأن التشريع الظاهر إن سرنا معه طولاً فسوف يوصل إلى التشريع الباطن وليس من فصل البتة.

   إنما أوجد هذه الاستقلالية الوهمية بين ظاهر الدين وباطنه هو جهل الإنسان وركونه إلى ما بين يديه والاحتجاب بالدنيا وأنظمتها المحسوسة بالحواس المادية عن المعنويات، وليس من سبب إلا إرادة النفس والتي تبتغي الركون إلى كل أمر دنيوي. وقد أدى هذا الفصل إلى الاستقرار على المستوى الواحد والذي يوصل بدوره إلى توقف الدين الحق، إذ أن الظواهر مهما اتخذت من صور وأشكال فإنها متناهية ما لم تتصل بالمعنى، إذ اللامتناهي من سنخ المعنى وليس المادة. لذلك توقفت الديانات التي اقتصرت على تشريعاتها الظاهرية، وما كان من أهلها إلا التبرء منها والبحث عما يغذي دوافعهم المعنوية، فما كان أمامهم إلا أمرين هما إما التحول إلى تشريع يُكمل مسيرهم ويغذي دافعهم الباطني الناتج من الحركة النفسية واللااستقرار الباطني، وإما اليأس عن وجود ما يأملون وبالتالي الانحراف عن المنهج التشريعي والذي يوصل إلى الانقطاع عن الصلة بالتشريع السماوي جمعاً.

   وهذا سببه كما قلنا هو تقصير الإنسان نفسه وإلا فما من تشريع سماوي كاملٍ كان أو ناقصاً. وأعني بالناقص ما كان مرحلة مؤقتةـ إلا وأوجد الحق أبواباً في ذلك التشريع للدخول إلى باطنه ونظامه المعنوي، لأن الدافع التكميلي المودع في كل إنسان من خلال النقص هو داعية إلى الكمال المطلق.

   لذلك بعد أن أعدّ الحق تعالى الإنسان وأكمل استعداده بالتشريعات السابقة استحق أن يُنزل عليه التشريع الكامل والمتمثل بالشريعة الأخيرة، والتي حوت على كل ما يحتاجه الإنسان في ظاهره وباطنه. ومن البديهي. إذ طبيعة الإنسان. أن يلتفت الالتفات الأعظم إلى الأقرب إليه ثم ينتقل بعدها إلى ما هو أبعد، به أخذ ظاهر التشريع الالتفات الأكبر من قبل الإنسان، ولكن بعد أن أحاط الإنسان بظاهر الشريعة وغاص في دقائقها أخذ ينظر إلى ما ورائها، وهذه النظرة هي بداية فتح باب باطن الدين أو قل هو الخيط الأول لربط ظاهر التشريع بباطنه، فرأى إن هنالك كم هائل في موارد التشريع الظاهري هي تخص أو تشمل التشريع الباطني، عندها أبصر أن الإسلام لا ينتهي بالواجبات والمحرمات إنما هو أوسع من ذلك بما لا يقاس، وهذا هو تمام النعمة { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } [المائدة : ٣].

   خلاصة القول : إن الإسلام دين متكامل جمع كل ما يحتاجه الفرد في مسيره اللانهائي، أو قل هو كلمة ألقاها الحق إلى عباده متصلة به غير منقطعة عنه اكتسبت حياة من تلك الصلة جعلتها تتطور وتتغير بتطور وتغير أفرادها. لذلك ترى في كل فترة ارتقاء للمجتمع يُفتح جانب جديد من هذا الدين يناسب مستوى ذلك الارتقاء، علماً أنه قائم على نفس الأسس الأولى التي اعتمدت عليها الجوانب السابقة أي نفس موارد التشريع.

   وهذا ما جعل للإسلام ليس باطناً واحداً وإنما بواطن متعددة بتعدد مراتب الأفراد، وكلما ارتقى الفرد المسلم فُتح له من باطن دينه ما يناسب مستواه الجديد. لهذا حاز على شرف ختم الأديان ولخلوه من أي نقص يدعو سده إلى دين جديد. ومن ذلك استلزم ظهور الإمام المهدي المنتظر (ع)  بنفس الدين إنما يفتح جوانب ومستويات جديدة تتناسب وعصره.

   ليس باطن الدين كما يتوهم البعض من أنه تأويلات معنوية لنصوص ظاهرية ! قطعاً لا، وإن كان ذلك من ضمن الباطن إنما باطنه مراتب كمالية فعلية تتنقل بالفرد والمجتمع من مستوى جوهري إلى آخر انطلاقاً من المرتبة الكمالية الأولى والمتمثلة بالتشريع الظاهري.

   وكتابنا هذا هو نفحات من الباطن العام أو فيوضات ذوقية كشفية أفاضها الحق من بواطن بعض الجوانب والتي منها ما هو شرعي وما هو أخلاقي وعقائدي، والبعض الآخر ربما يكون غير مطروق لكنه فيض من باطن الإسلام. يرى من خلاله القارئ سعة الدين وعمقه، وأن الشريعة ليست عبادات توصل الإنسان إلى دخول الجنان فقط، إنما هي باب واسع يطل على عوالم متكاملة تفتح أمام الإنسان كل مدارج الكمال وتسقط الخصوصية. بل هي أوسع الأبواب لدخول أكمل طرق التكميل.

   وقد رتبناه أبواباً لاختلاف موضوعاتها من حيث ظواهرها ولأجل أن يغني القارئ.

   هذا ، ونسأله عزّ شأنه وعلا جدّه أن يجعلهُ من الأبواب التي يرزق منها عباده فلا فائدة إلا به ومنه إنه كريم قريب.    


الفقير بسعيه الغني بربه
                                      منتظر            

    

جديد قسم : فيوضات من الباطن

إرسال تعليق