ومضات تربوية
الأمر بالمعروف


الأمر بالمعروف

      إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الواجبات الإنسانية العقلية قبل أن تكون من الواجبات الشرعية، فتقويم الإنسان لأخيه يصب في مصلحة الكل.
     وربما اغلب مصاديق الأمر بالمعروف المتحققة لدينا كمسلمين تقتصر على الكلمة المجردة، أو قل هي منحصرة بالمرتبة الأولى من مراتب الأمر بالمعروف؛ والسبب في ذلك أن الآمر أو الناصح أو الواعظ غالباً ما يروم براءة ذمته والخروج من عهدة التكليف، فقلما ينظر إلى نتائج نصحه أو وعظه. وهذا يُلزم متلقي الأمر والنُصح بالانفراد الكامل بإرادته لأداء المعروف أو الانتهاء عن المنكر، أي دون محفز أو معين خارجي، وهو يؤدي غالباً الى التقاعس عن فعل المعروف أو ترك المنكر، إذ أن إرادة التحقيق ضعيفة من الأساس أو قل خاملة من جهة هذا الموضوع، والاعتماد الكلي على هذه الإرادة الضعيفة سلفاً لا ينجد غالباً.
     وقد التفت بعض الآمرين بالمعروف الى ذلك فاتخذوا طريقاً آخراً، وهو طريق الإكراه بما وهبهم الله تعالى من قوة التسلط، وهذا الأسلوب الجديد ربما أعطى بعض النتائج الايجابية لكنها قليلة نسبة إلى ما سببه من ضرر، فكانت ردود أفعال المأمورين سلبية تجاه هذا الأسلوب وأصحابه وربما الطريق الذي ينتمون إليه، فأضحوا بعيدين عن الشريعة وربما كارهين لواجباتها.
     وإنّ عدم الاستجابة للآمرين بالمعروف او الناهين عن ضده خلقت لدى الآمرين الإحباط واليأس من الإصلاح.
     وغالباً ما يلقى كل اللوم على تارك المعروف أو فاعل المنكر، على أن المجتمع فاسد ولا يريد الإصلاح. نعم نحن نقطع يقيناً أن اغلب الفاسدين لا يريدون الإصلاح، ولو كانوا يريدون الإصلاح لما أصبحوا فاسدين، لكن إلقاء اللوم كاملاً على الفرد المقصر أو المنحرف فيه شيء من المسامحة، فلربما هنالك عدة أسباب حالت دون السماع، ومنها أسلوب الآمر بالمعروف وطريقته وزمنه، والجهل بمداخل المقابل، أو أن الناصح أو الآمر يكون دافعه هو براءة ذمته ليس غير، كما سبق.
     فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المعمول به لا يخرج عن أسلوبين مرتكزين على دافعين: 
    الأسلوب الأول: يكون فيه الدافع هو إسقاط الواجب الشرعي أو إلقاء الحجة على المقابل. وغالبا لا يثمر هذا الأسلوب ثمرة كاملة، أي لا يستطيع أن يُساوق الفساد في سيره، حيث يقتصر فيه الآمر على ما يفرغ ذمته، بكلمة أو كلمات جوفاء دون أثر قلبي.
    ومحط نظر الآمر بالمعروف هنا هو مصلحته الخاصة الأولية، وهي الخلاص من تبعة ترك الواجب.
    الأسلوب الثاني: والذي يكون الدافع فيه حب الخير للغير، التقرب لرب العالمين. وصاحبه لا يكتفي بالكلمة والخطبة العابرة، بل هو كثير المحاولة، وربما لا يتوقف على حدٍ ما، لكن الذي يؤسف إن أكثر هؤلاء هم أصحاب التفريط الذين يكون دافعهم حق لكنّ تطبيقهم باطل، أعنى لا يرتقي إلى مستوى الدافع.
     نعم هنالك أسلوب ثالث، وهو برزخ بين الاسلوبين السابقين، يعطي من النتائج ما يقصر عنه سابقَيه، ونستطيع أن نسميه بأسلوب الملازمة التقويمية، وهو ينجح مع أصحاب القسم الثاني. ومحصله: أن تُلازِم المخطئ أو المنحرف ملازمة حقيقية، صديقاً كان أم قريباً أم غريباً، أن تجعله هدفاً في حياتك لا يقل أهمية عن بقية أهدافك أن لم يزد عليها، أن تجعله مشروعك الذي لا تقنع بغير نجاحه، أن تخطط لإنجاحه (لأن هدى الله بك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس) [صحيح البخاري ح-3498]. أليس غيرنا يخطط لإفساد المجتمع وإبعاده عن الدين وتسفيه الواجبات الشرعية في نظره؟ وهو لا يسأم ولا يكل، يفكر ليلاً ويعمل نهاراً، يضحون براحتهم وملذاتهم من أجل أهدافهم الدنية؟ وهذا من الأسباب التي جعلت من الفساد قوة تكاد لا تقهر، وأمسى المجتمع المسلم بل الموحد عموماً في نزول وانحدار يتسارع يومياً، لا توقفه كلمات الخطباء ولا رسائل العلماء! وليس هي إلا واجبات معدودة، لو رعيناها حق رعايتها لكنا أمة في قمة الأخذ والعطاء دنيوياً وأخروياً، لكنا قوم ننادي من وراء الحُجرات!.
    ولا يقول لي قائل: أنه ينبغي علينا أن نصلح أنفسنا ثم نصلح غيرنا، لأن فاقد الشيء لا يعطيه. أقول: هذا من تسويل وتسويف النفس، فلا يوجد إنسان كامل الصلاح ولا كامل الفساد، الكل يحوي شيئاً من الصلاح وشيئاً من الفساد -إلا من رحم ربي -كل ما في الأمر أنت صادق انصح أخيك بعدم الكذب، انت تصلي أنصح أخيك بالصلاة، أنت عادل انصح بالعدل، وأما الذي أنت مقصر فيه فلا تنصح به أحدا.
    لكن ينبغي أن تتوفر مقدمات لهذا الأسلوب من قِبَلِ مطبّقه لكي يكتب له النجاح، وهي:
    المقدمة الأولى: أن لا يكون دافع الواعظ أو الآمر الملازم هو إسقاط الواجب فحسب، إنما ينبغي أن يكون محركه الإصلاح في طلب رضا الله تعالى، أو ردّ الفضل لرسله وانبياءه، أو السير على نهج الأنبياء والمصلحين وتطبيقاً لأفعالهم.
    فإن المجتمع بأمس الحاجة الى النصح المؤثر الذي يكون محركه غيري وليس نفسي.
   المقدمة الثانية: أن يكون لدى الآمر بالمعروف قوة تحمل، يسع من خلالها ما يصدر من المقصّر، فلربما صدرت منه كلمة فاحشة أو فعل مسيء تجاه الآمر أو جزعاً منه أو غيرها، الأمر الذي يؤدي بالضعيف إلى ترك مسؤوليته بحجة أن المقابل لا يستحق.
     وليتذكر الناصح إن قدوته عليه أفضل الصلاة والسلام عندما ذهب الى أهل الطائف لم يقل له أهلها: ارجع أيها الصادق الأمين! بل انهالوا عليه بالحجارة وكل ما استطاعت ان تصل إليه أيديهم، والسب والشتائم والكلام الفاحش الذي لو سمعه أحدنا لترك المعروف وأهله! لكنه ظل يتنقل من حي إلى حي، والنتيجة ما هي الآن؟ أهل الطائف مسلمون! .
     المقدمة الثالثة: أن لا يقتصر الناصح حين الأمر بالمعرف أو النهي عن المنكر على أسلوب واحد، فإن النفوس تملّ الحال الواحد، فيجب أن يتنقل بين الترغيب والترهيب والتوهيم والتحفيز والمدح والذم وغيرها من مفاتيح النفوس.
     المقدمة الرابعة: أن لا يفارق الشخص الذي يريد تقويمه فترة طويلة، فإن المغريات بالتقصير ودواعي الانحراف كثيرة.
     واعلم، أن زكاة الصلاة هي أن تأمر بها غيرك وزكاة الصدق أن تنصح به غيرك، ومانعات النزول إلى الكذب هو أن تحذر منه غيرك وهكذا.
والله المستعان على نفسي وأنفسكم وهو حسبنا ونعم الوكيل




جديد قسم : ومضات تربوية

إرسال تعليق