الطاعة |
الباب السابع والعشرون
الطاعـــة
إن مـن أهـم القواعد التـي قـامت عليهـا الأصول والفروع في
الظواهر والبـواطن هـي الطاعة . فلا تطبيق للأوامر والنواهي ولا يُعمل بها إن كانت
ممن له حق الأمر والنهي إلا بسبق الطاعة . والطاعـة تعتمـد على المعرفة ، حيث تولدها
من معرفة المطاع ، فان كان أهـلاً لهـا أُعطـيَها وإلا فمنعه أولى ، وهذا عائد للإرادة
الحـرة . أما طاعة دون المعرفة فهي مشكلة عقلاً .
والطاعـة
هي الانقياد لإرادة من له حق الأمر ، فإذا حكم العقل بوجوب طاعة الحق وجبت طاعته .
فكان أساس الطاعة هو حكم العقل . وأحيانـاً تكـون الطاعة مـن النفس واعني الطاعة
العامة، حيث يطيع الإنسان بعـض المخلوقات أو الأشياء التي يحكم العقل بعدم طاعتها
، ولكن قوة النفس دليـل عـلى ضعف الإرادة المسبب لإهمال العقل وان كان ذا أفكار
صحيحة.
فالطاعـة
أصل من الأصول الأولية التي أوجد الحق قابليتها في الخلق لاعتماد الكمال العملي
عليها ، إذ بدونها يسقط النظام التكميلي الإرادي ، فليس من انقياد لملازمات
الاعتقادات لولا قابلية الطاعة . لذلك كانت التشريعات مبتنية على أساس وجود الطاعة
.
وللطاعـة مسـتويات عديـدة لملازمتها الإنسان أو
المخلوق بصـورة عامـة فـي كـلا الخـطين وعدم انفكاكها عنه في أيٍ من مستوياته
المُدرَكة لعدم انفصال العبودية عن الربوبية . فتخـتلف من مستوى إلى آخر على حسب
مستوى الأوامر المتقيدة بمرتبة نزولها ، وكذلك في المسـتوى الواحـد تكـون متفاوتـة
لـدى المخلوقات بالتفاوت الأدنى والذي سببه وجود الحجب المضعفة لها ، وهذه الحجب
لا تخلو من ثلاثة جهات .
وهي
وجود الطاعة للنفس أو الشيطان أو إنسان آخر ، فإن وجـدت إحدى هذه الحجب ضعفت إطاعة
الحق سبحانه ، وكلها تعود إلى عدم اليقين ، ومعلوم أن اليقين يعود للمعرفة حيث على
قدر المعرفة يكون اليقيـن ، وبهـذا أصبح المـدار الحـق هو المعرفة فمن عرف الله
أطاعـه .
ومـن
مسـتويات الطاعـة هـي الطاعة الظاهرية ، أي في الأوامر الإلهيـة الظاهرية , وهـي
معتمـدة على المعارف الدانية، أعني الأولية للحـق سـبحانه ، لان العبـادات هـي
مستويات أولية فمن عرف القليل من الحـق عبـده ، فمعرفة الأفعال والصفات الإلهية
الظاهرية توجب عبادة الحق سـبحانه بالالتزام بأوامره ونواهيه ، أما عبادة دون
معرفة مستوى من مستويات الحق فتلك عبادة ناقصة أي لا ترقى إلى طاعة الأوامر ، لذلك
نرى من البعض التقصير في إطاعة الأوامر وتجنب النواهي والسبب هو عدم تحقق المعرفة
التي تتناسب مع طاعة الأوامر ، ولستُ أعني المعرفة العقلية المجردة إنما المعرفة
المصاحبة لليقين . فعلى قدر معرفة الإنسان للحق يعرف استحقاق الحق ثم أداء ذلك الاسـتحقاق
الكامن في فعل معين المؤدي إلى كمال الإنسان ومنـه تحقيق الإرادة الإلهية للكمال .
ويكون
أحياناً في أداء الفعل طـاعتان ، طاعة للحق وأخرى لغيره ، من قبيل بعض الأفعال
التي هي من أوامـر الحـق وتُزيَنُ للإنسان بزينة شـيطانية ، أي يزين الشيطان للإنسان
الفعـل ألعبـادي مثـلاً ، فيكون التزيين هو الدافع لأداء ذلك الفعل ! فتصبح الطاعة
ليست للحق بل للشيطان ، حيث الدافع هو الظـاهر الجـميل لتلـك العبـادة وليس جوهرها
! والإنسان غافل عن ذلك ( بل متغافل ) ، والطاعـة هـي طاعةً سواء كانت بعلم الإنسان
الكلي أو ليست بعلمه الكلي ، أي سواء كان بالإدراك الذهني أم لا لأنه أحيانا يغفل الإنسان
ذهناً لكنه يتنبه قلباً وليس بغفلة مطبقة ، أو بعلم المطاع أو ليس بعلمه ، إنما
المدار على وقوع الأمر بنيته ، ومن ذلك تكون طاعة الشيطان أو النفس وطـريق
الشـيطان هـو طـريق النفس, وعليه يكون الكمـال من الفعل للشيطان أو النفس والذي
يؤدي إلى زيادة هيمنة الشيطان أو النفس على الإنسان . لذلك ترى التدخل الشيطاني
والنفسي في كل الأفعال العبادية للإنسان تقريباً حيث يكتسب الشيطان بعـض الكمـال
من ذلك . وليس إطاعـة الشيطان هو أن يعمل الإنسان عملاً يريده الشـيطان وهو يعلم
ذلك، وان كان ذلك موجوداً .
وكل فعل غير خالص
لوجه الحق أو جهته إنما بما يحوي من إشراك موجودٍ آخر بالطاعة وذلك لانحصار المسير
بخطين . ومن أكثر المُشرَكين مـع الحـق بإطاعته هي النفس ، حيث تداخلها مع الإنسان
أكثر من غيرها لان كـل مطـاع غير النفس هو خارجي والنفس موجودة في الإنسان فيكون
لهـا سهولة الدخول في كل أفعال الإنسان بل بكل حركاته وسكناته ، لذلك من الصعب
تجريد الفعل مـن التـأثير النفسـي . ولكـن يجـب أن يصل إليه الإنسان لكي يحقق
العبوديـة الصحيحـة للحق تعالى .
ولهذه الطاعة اعني الطاعة النفسية مراتب عديدة لكن الأصول
منها ثلاثة مراتب :
المرتبـة الأولـى : الطاعـة الكاملـة للنفس ،
فبعض الأفعال تكون خالصة للنفس مثـل الأفعال الماديـة كـالأكل والشـرب والنوم
وغيرها ، فهذه الأفعال خالصة لوجه النفس وليس للحق منها شيء إلا ما ندر من الناس
من يأكل لأجل أن يقوم لطاعة الحق .
المرتبـة
الثانيـة : هـي الأفعـال التـي لا يحتاجهـا الإنسان في كل المسـتويات الكمالية ، واعني
الأفعال العبثية التي يفعلها الإنسان لوجود الدافع النفسي إذ أنها عبث بالمنظار
العقلي ، أما بالنسبة للنفس فليست كذلك
فبفعلها تكون كذلك خالصة لوجه النفس .
المرتبـة
الثالثـة : وهي الأفعال الواجبة للحق سبحانه ، التي فرضها الحق عـلى الناس والتي
يجب أن يكون أدائها من اجل إطاعة الحق سبحانه ( يتصور أغلب الناس أن أداء الفعل العبادي
هو الطاعة , وبما انه أدى الفعل فقد أقام الطاعة وهذا خطأ ، إنما الطاعة هي الدافع
لأداء الفعل أي سابقة للفعل ) وهذه الأفعال كذلك فيها شيء من التأثير النفسي من
عدة جوانب فبعض الأفعال العباديـة يقـوم بهـا الإنسان من اجل المديح أو السمعة أو الخـلاص
من العذاب أو الفوز بالجنان ، فكل هذه الغايات نفسية أي فيها رضا النفس فيكون
الدافع للفعل هي النفس أي طاعتها وليس طاعة الحق .
وكـذلك
جـانب آخـر ، هو إن الإنسان يقـوم بـالفعل العبادي طاعة للنفس ، وذلك لاعتيـاد
النفس عـلى ذلـك الفعـل ، وغيرهـا مـن الجـوانب التي تسقط الطاعة وتمنعها من
الارتقاء إلى الجهة العليا . فبذلك تكون الطاعة للنفس وليست للحق أي أن العبادة
نُقلت من عبادة الحق إلى عبادة النفس فأصبحت النفس هي الإله الواحد !! وما أنا من
الكافرين .
فلـو تنبه الإنسان قليلاًً إلى هذا الأمر لرآه
حق اليقين ، فبهذا يتخذ الإنسان إلهـه هواه كما نبهنا الحق في كتابه : { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ
عَلَيْهِ وَكِيلًا } [الفرقان : ٤٣].
أما
الطاعة المطلوبة فهي إطاعة الحق أو من يوصل إلى الحـق واعني طاعة الرسل يقول جل
ذكره : { ومن يطع الرسول فقد أطاع اللـه } [النساء : ٨٠] حـيث أن
الرسول هو الموصل إلى الحق ، والرسول هنا لا يعني به الإنسان المُرسل من الحق لنشر
شريعة معينه فقط ، بل جنس الرسول ، فكلُ شيءٍ أو فعلٍ كان سبباً لمعرفة الحق أو
تقـاته ، فهو رسول ، حيث أن الحق تجلى لعباده بعباده . فرُب إنسـان يعـرف الحـق
عـن طريق شيء بسيط ولا يعرفه عن طريق الأنبياء , وكـل الأشـياء رسـل الحـق مـن جـانب
وجـود الحق بها ، لا جانب وجودها الاسـتقلالي ، ومـن نظر إلى ذلك الجانب رأى أثراً
من الحق ، فيكون منظـار الطاعة هي الطاعة فلا يطاع إلا المطيع ، فكل من أطاع الحق
فلا ضير في إطاعتهِ من جانب إطاعتهُ للحق .
فيكـون
المقيـاس الحـقيقي عند الحق هـي الطاعـة وكذلك عند الخلق ، فأفضلهم أكثرهم طاعة
للحق . والإنسان مفطور على الطاعة ، فإما أن يطيع الحق أو يطيع ما دونه .
وطاعـة
النفس لا تجـتمع مـع طاعـة الحـق ، يقول جل ذكره: { وَلَا
تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ
فُرُطًا } [الكهف : ٢٨] والغفلة ناتجة عن عدم إطاعة الحق ، وإتباع الهوى هو إطاعة النفـس
. فكل من أطاع نفسه فلا تصح طاعته حيث المقياس هي الطاعة لا غير وهـذا واضح وظاهر
في الآية السابقة . أما تغيير ذلك المقياس بمقياس آخر كالرفعة أو الجاه أو العلم أو
غير ذلك فكله لا يوصل إلا إلى الضلال البعيد ، وقد بين الحق ذلك على ألسنة
المطيعين لغير الحق:{ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا
سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا } [الأحزاب : ٦٧] والسادة والكبراء
هم القادة والعلماء وذلك لأنهم تعاموا عن المقياس الذي يُعرف به الإنسان فلو كانوا
يريدون الحق لوجدوه . ولكن نفوسهم أطمئنت للضلال وذلـك للتشابه والتماثل البـاقي
بين المطيع والمطاع أي بينهم وبين سادتهم وكبرائهم .
هذا
، وإن الطاعة لأي موجود تعكس الصفات عند المطيع ، فمن أطاع العادل انعكس شيء من
صفات العادل في نفسه ، ومـن كـان يحـوي على رذيلة ما انعكست في نفس المطيع دون
الشعور بذلك ، وهـذا الانعكـاس يكـون للصفـات النفسية فقط , أما الجوانب العقلية
فليسـت خاضعـة لنظـام الانعكـاس الباطني إنما تكون بالاكتساب . لذلك لا تجـوز
طاعـة كـل من يتصف بأي رذيلة أو نقص نفسي ، حيث أن طبيعة النفس عنـد الإنسان الذي
لم يبلغ مرحلة الخلاص من سلطان النفس أو السـيطرة عليهـا تكتسب بعض الصفات من
الغير وذلك عن طريق العلاقة بينهمـا ، فكـذلك علاقـة الطاعـة كفيلـة بنقل بعض
الرذائل أو الأمراض الباطنيـة من العـالي إلى الـداني أي من المطاع إلى المطيع إن
كان المطاع يحوي ذلك ، وكل من أطـاع الحق أكتسب من صفاته اللامتناهية .
ومن
مقومات الطاعة هي المحبة فـمن أحب إنساناً أطاعه ، وكل من لم يحب الحق صعب عليه أن
يطيعه بالطاعة المطلوبة .
ومحبـة
الحق لا تحتـاج إلى درجة عالية من المعرفة إنما معايشة أي فعل من أفعال الحق توجب
محبة سبحانه .
والطاعـة الحقيقـة هـي أن يعمل الإنسان
كل عمل يقربه للحق سبحانه سواء نص عليه أو لم ينص , حيث أن بعض الأفعال لم يوجبها
الحق بالوجوب الإلزامي في مستوى الشريعة لصعوبتهـا على من كان في ذلك المستوى , أما
لو وصل الإنسان إلى تلك الأفعال وجب عليه بالطاعة أن يفعلها ، لان الهدف هو كمال الإنسان
فكل فعل يراه الإنسان يزيد في كمالـه وجـب عليـه فعلـه وهـذا الوجوب هو من اجل
الهدف . وتتحد كل العبادات وكل إطاعة للحق بمخالفة النفس وتوسيع الإدراك المقربان إلى
الهدف كما بينا . فيكون كل فعل فيه مخالفه للنفس مع وجود النية وهي إطاعة للحق
تقدماً في الكمال . أما إذا كـان الفرد مريداً للكمال الخاص فيكون كمال طاعته في
إطاعة مرشده وشيخه إلى حين الفطام .
أما
واقع الطاعة ، فهو التجرد من المصالح الخاصة ، أي الكمالات النفسية الكامنة فـي
تحـقيق رغبات النفس ، فإن تجرد الإنسان من هذه المصالح لم يبقَ أَمامـه إلا وجه
الحق تعالى ، فتكون كل أعماله للحق , وكل فعل ليس فيه للحق شيء سوف يُترك . عندها
تُفتح للإنسان أبواب الباطن وتفيض علية
المعرفة الحقة والتي تقربه إلى الكمال المطلق . ونهاية كمال الطاعة الأولى هـو
الوصـول ، ثم بعد الوصول يبدأ الإنسان
بطاعة تختلف عن هذه الطاعة اختلاف جذري .
( وهو
أعلم بما يريد من عباده )
تعليقات: 0
إرسال تعليق