فيوضات من الباطن
طرق نيل المعرفة


الباب الثاني
طرق نيل المعرفة

   بمـا إن العرفـان طـريق بـاطني وجب على كل من يريد الدخول فيه أن تكون له معرفة به ولو إجمالًا أي معرفة كيفية الدخول فيـه ومعرفة علاقته مع الظاهر، وما هو هدفه وكيفيـة الاسـتعداد له وطبيعة العمل فيه وغيرها من المعارف الأولية ألإجمالية التـي يحتاجهـا الإنسان المريـد لهذه الطرق. لان الدخـول فـي أي طريق دون معرفته ولو إجمالا يعد دخولاً ناقصاً وربمـا لا يـوصل إلى المطلـوب لعدم التهيؤ له، وكذلك من اجل إحراز القناعة بـذلك الطريق لان النفس اكبر أعداء طرق الحق. إلا أن يكـون الإنسان محافظاً على صفاءه الفطري المولد دافعا فطرياً  لـذلك الطـريق. أقول هذا لان لكـل إنسان حظ من ذلك.

   وحيث أن المعرفـة هـي طـريق إرادة الـروح لكن من الصعب العثور على أناس كُثر لديهم الاستعداد والدافع للمسير في هذا الطريق أو لديهم الصفاء الفطري.

   المهم أنه يجب على الإنسان المريد لطريق الكمال أن يكون له علم معتدٍ به مع يقين بهذا الجانب.

   والأمر الآخر عـند المسير نفسه يحتاج المريد إلى من يدله عـلى خطـه في الطريق، ويبين له الأمور التي تواجهه ويبين كـذلك علاج الأمراض الموجودة فيه أو التي من المحتمل أن تظهر لديه، فكل ذلك لا يسـتطيع الإنسان البدائي معرفته إلا بواحدة من الطرق التي سـنعرضها وكلهـا وسـائط تـوصل إلى الكمال ولكن بتفاوت من حيث السرعة والبطء وقرب وبعد الغاية، فمنهـا :

   الطـريق الأول : وهـو ( الطـريق الإلهي ) وذلـك بأن يأخذ الإنسان معارفه من الحق سبحانه وتعالى وهو على مسلكين.

   المسلك الأول : هو بالاتصال المباشر بالحق وأخذ المعارف عنه وذلـك بالطريقـة التي يختارها هو سبحانه، فمنه يكون مورد المريد واستنزال زاد طريقه واخذ المعارف الإلهية. ولكن هذا الطريق يتعذر على الإنسان البـدائي إذ أن اخذ المعارف من الحق يحتاج إلى استعداد عالٍ جـدا واقلـه دخـول مقـام التـوكل المعنوي وهو من المقامات العاليـة والمسـتصعبة عـلى المريد البدائي لأنها تحتاج إلى قـدم صـدق عـند عليم مقتدر. واعني أن تكون لديه قدم معرفة بصفتي العلم والقدرة المستلزم باطناً لليقين بهما.

   المسلك الثاني : هو الاتصال بالحق واخذ المعارف منه عن طريق الواسطة، من أصحاب المراتب العليا كالأنبياء والأولياء سلام الله عليهم، وذلك بأن يتصل الإنسان بالإمام أو النبي الذي يكون قريبا إلى قلبه فيتخذه واسطة بينه وبيـن الحـق. ومـن خلالـه يكون نقل المعارف إلى الإنسان وهو طريق يوصل إلى نتائج لا بأس بها. ولكنه يتعذر في أغلب الأحيان لان الاتصال الحقيقي مع الإمام لا يكون إلا في مرتبة الصفات الكائنة في نهايات السَفر الأول، وأعني بالإمام هنا هو الإمام البـاطني لا الإمام الظاهري وإلا فمن السهل الاتصال مع الإمام الظـاهري لأي إنسان يكون له شيء من الصفاء ولو لوقت محدود يستطيع أن يتصل مع الإمام الظاهري ويأخذ منه بعض الأشياء أو الفوائـد الظاهريـة أو القريبة من الظاهرية. أما العرفان فلا يؤخـذ إلا مـن الإمام البـاطني وهـذا واضح من سيرة الرسـول ( ص ) والأئمـة الأطهار حـيث كـانوا ظاهريين مع أصحاب الظاهر وعارفين مع الخواص وهذا هو منهجهم في حياتهم وبعد مـوتهم (الظـاهري)، والشيء الآخر إن الاتصال مع الإمام يحتاج إلى معرفـة الإمام وهـو أمر صعـب عـلى المريد للكمال الخاص. وكذلك فإن المسير من خلال النظام الطبيعي أكمل من غيره.

   الطريق الثاني : وهـو طريق الاستنباط والاستنطاق العقلي. أي يـأخذ الإنسان معارفه باسـتنباطها مـن الموجـودات الخارجيـة كالمخلوقـات المادية والمعنوية أو الكتب السماوية أو الأحاديث والأقوال أو غيرها لكينونة الصفـات فـي الأفعال، والأفعال دليل على الصفات لتولدها منهـا والصفـات دليـل على الذات لا أكثر، فمـن خلالها يستطيع الإنسان أن يأخذ مـن المعرفة على قدر استعداده، وبه يستطيع الإنسان الوصول إلى العرفـان. لكـننا لو نظرنا من زاوية الكمال وجدنا إن هذا الطـريق لا يخـلو من إشكالات وأخطار من المحتمل أن تؤدي إلى خـروج المريد عـن خطه الصحيح أو توقفه في المسير المطلوب للكمـال المعهـود، ومن هذه الإشكالات :

   أولاً : إن الاسـتنباط يعتمـد عـلى العقـل فلابد أن تكون للعقل قـدرة على الاستنباط ومن البديهي إن اغلب الناس لا يمتلكون هذه القدرة العقلية على استنباط المعنويات من الماديات واعنـي الخاصـة لا العامـة بمـا أن الطـريق عـام للعـالم والجـاهل بالمنظـار الظاهري. ولو تنزلنا عن ذلك وقلنا إن النـاس لـديهم هذه القدرة ولكن بتفاوت وبتوسع مستمر فسوف يواجهنـا إشكال آخر وهو إن الإنسان يعتمد بطبيعة استنباطه على قواعد عقلية ثابتة، علماً إن أكثر القواعد العقلية لدى الإنسان الظـاهري ليسـت صحيحـة لان أكثرها قواعد ظنية أو ليس لها واقـع باطني أصلاً ( وان كان يراها هو بنفسه صحيحة ) والاعتماد على اليقيـن بالظن مشكل والظن قابل للخطأ كما هو قابل للصواب وان كـان للصواب اقرب منه  إلى الخطأ، ولكن هذا لا يغني من الحق شـيئا. والاسـتنباط وان كان  قريبا من الصواب فأنه لا يؤهل لأخـذ أي معرفـة عـن طريقه بل وحتى القواعد العقلية اليقينية الظاهرية لا يستطيع المريد للحق الاعتماد عليها باستنباط معارفه، لان هناك اختلافاً حتى في هذه القواعد، وذلك لان القواعد العقلية الباطنية توصل بطبيعتها إلى العقل اللامادي أما القواعد العقلية الظاهرية فإنها من كمال العقل المادي. فيختلف هنا المصب. 

   ثانيـاً : إن العقـل لـدى الإنسان غير المتجرد يكـون عليـه شـيء مـن التأثير النفسـي، فلو استنبط الإنسان معارفـه عـن طـريق هـذا العقـل فسوف لا يصل إلى المطلوب لان النفس غايتهـا تحـقيق رغباتهـا مـن كل الطرق ومنها الطريق العقـلي فتكون كل المعارف التي يصل إليها الإنسان هنا معارف ذات امـتزاج نفسـي ومن المحتمل أن تكون أفكاراً نفسية خالصة مصبوغة بصبغة عقلية وما أكثرها لدى العقلاء !. والنفس أحيانا تعطي الإنسان بعض الأفكار التي تخالف النظام النفسي المعهود. أي إن من طبيعة النفس هو التكامل النفسي فترفض النفس في حينٍ ما بعض كمالاتها من اجل كمال اكبر من ذلك.

   ثالثـاً : إن العقـل عند الإنسان بصورة عامة لا يخلو من الأوهام المكتسـبة مـن عـالم الدنيـا أو العـوالم الأخرى والتي ولَدّت بطبيعتها صفة الاكتساب الوهمي لدى العقل المادي الأول لوجود الاستعداد لذلك. ووجود هذه الأوهام يؤدي إلى اسـتنباط معـارف من الصعب الارتكاز عليها في أي مُعتقـد. وطبيعـة الاكتسـاب تسـهّل عـلى العقل تقبل أي فكرة وهميـة دون التعـارض، وعنـد دخول هذه الأفكار ستكون عرضة للعمل بها لعـدم الفصـل. والشيء الآخر هو حين إدراك الإنسان لمعرفـة معينة ثم أخرى تخالف تلك المعرفة حينها يضطر إلى تـرك إحدى المعـرفتين وذلـك لعدم معرفة الجمع وصعوبته لان العقـل البدائي يصعب عليه إيجاد الرابط الدقيق بين فكرتين أو أكثر مـع تخـالفهن ظاهرا، فإذا ترك أحد المعرفتين فسـوف لا يصـل إلى المطلـوب. وأحيانا يصل الإنسان إلى معرفة معينـة فـي مقـام معيـن ثم تأتي معرفة تخالف الأولى ولكن في مقـام ثـاني وهـو يجهل دخوله لذلك المقام، فيضطر إلى ترك تلك المعرفة، أو يصل إلى معرفة توجب عليه ترك الأولى حيث البقاء عليها والعمل بها حجاب ولكن البدائي يجهل ذلك.

   رابعـا : إن الاستنباط العقلي لا يكون له من اليقين حظ كبير لان اليقين بالغير أشد من اليقين بالنفس وخاصة إذا كان الغـير ذا شأن. فمـن الصعـب أن يصـل صاحب العقـل إلى المعايشـة الحقيقيـة للمعرفـة والتي تولد أعلى درجات اليقين وهي بعيدة عن الاستنباط ، وعدمها يؤدي إلى فتـور الهمـة والإهمال، وربما لسَلب المعرفة، نعم تحصل درجة من درجـات اليقيـن ولكـن هــذا اليقيــن معــرض للخــطر مــن عدة جـوانب واقلهـا الاختبـار، وإن كان الاختبار من اجل اليقين بالمعرفة ولكنه ذو حدين وهما إما اليقين الحقيقي بها أو تركها مطلقـا لكنـه يعتمـد عـلى يقيـنٍ سابق وقليل ما يوجد عند الاستنباط فيكون ترك الفكرة اقرب منه إلى اليقين بها.

   وأيضاً يصعب على مريد هذا الطريق التمـييز بيـن المعـارف الحقيقيــة والمعــارف الاختبارية، فربما عمل بمعرفة اختبارية يجب تجنبها ظناً منه أنها حقيقية مما يُنقص من كماله في أي صورة كانت. وعدم التمييز هذا يُدخل في الحَيرة وهي مـن أصعب المقامات العقلية، ومع قلة اليقين السابق يؤدي إلى التبـاعد عـن الحقيقـة أو الشك فيها، ومن البديهي إن الشـك ولـو بقـدر رأس إبرة فـي أي معرفة يوجب حجب الإنسان عنهـا.

    فبهـذا يكـون طـريق الاستنباط هو من اخطر الطرق واقلها حظا في الكمـال الحقيقي. هذا في بداية الطريق أما في مقامات عالية فيكون ضرره اكبر، إلا أن يصل الإنسان إلى مقام العقل.

   أما الطـريق الثـالث :  فهـو طـريق الحس الباطني. فيستلهم الإنسان معارفه عن طريق الحس المعنوي ، فإذا عرضت له معرفة مـا سـواء أكانت داخلية أم خارجية فسوف يُحـكّم فيهـا إحساسه المعنوي فيكـون هـو الحـكم الفصل في معرفة كل المعـارف. فيعتمد عليـه في كل معارفه وان ارتقى اعتمد عليه في كـل شـيء.

   وحسـب الظـاهر إن هـذا الطـريق فيه بعض العقبات العرضيـة التـي تحجب عن ثبات الاستقامة حين الابتداء وهذه العقبات :

   أولها : إن الإنسان البدائي قلمـا يحصل عنده هذا الحس وذلك لان الحس القلبي يحتاج إلى درجـة معتدٍ بها مـن الصفاء القلبي، وقليل ما يوجد هذا الصفـاء عنـد الإنسان البـدائي لأن عليه غبار الدنيا الذي يؤدي إلى تداخل الأصوات الباطنية وهذا يحتـاج إلى تطهير، علما انه سيبقى منه اثر بالقلب، وعدم وجود الصفاء المطلوب يحجب عن الحس المطلوب أو يؤدي إلى وصول صوت الحس خـافتاً جـدا. إذ أن وجود أي شاغل سوف يحجب عن سماع هذا الصوت الباطني.

   ثانيـا : ينبـع من باطن الإنسان على كل مستوياته أصواتاً عديدة منهـا الصـوت النفسـي والصـوت الشـيطاني والصوت العقلي والصـوت الملكوتي والصوت الوجداني سواء الداني منه والعالي. رغم إن الوجدان العـالي لا يتوفـر لأي شخص إلا لمن اصطفى حـيث كـلم الله موسى تكليما. فمن الصعب أن يميز الإنسان بين هـذه الأصوات، فلربمـا يأتيه صـوت شيطاني أو نفسي ذو فائدة ظـاهرية ولكن ضـرره بـاطني أو ذو فـائدة باطنيـة ولكنّ ضرره الظـاهري أكبر والإنسان لا يعرف مداخل الشيطان للنفس أو العقل إلى غير ذلك. ولا يستطيع التمييز بين هذه الأصوات إلا مـن قطـع شـوطاً فـي الطريق لان الجـوانب الرئيسة المبتغية  للكمال السافل تكون في أوج قوتها في هذه المرحلة حيث إخراج النفس والتضعيف وغيرها لكي يُحجب الإنسان عن كماله الروحي. وكـذلك يصعـب عليـه تحمل الاختبـار ممـا يؤدي إلى قلة الثمرة المطلوبة، وطبع النفس إن رأت مـن الإنسان طاعـة فـي أحد الجوانب فسوف تحاول إدخال أوامرها من ذلك الجانب. والنفس عند المريد في أوج قوتها.

   ثالثـا : إن هذه الأصوات أو الأحاسيس ليست دائمة ففي بعض الأحيان إن لم تكـن اغلبهـا يواجـه الإنسان معرفة معينة أو فعل معين فلا يصدر من قلبه حـس إزاء ذلك الفعل مما يودي إلى عرقلة قد تؤدي إلى ترك الفعل أو فعل الضـد، واقـل ضـرر هو التأخر عن الفعل. أما وصول الإنسان إلى حس صائب لا يخطأ فهـذا مقام ليس بالهين إنما يتحقق في العالم الرابع عندها يُعتمد كلياً على هذا الطريق.

   أما الطـريق الـرابع : وهو اخذ المعارف الأولية عن طريق المخلوقات السامية بالنظرة الظاهرية كالملائكة مثلا  فإن هنالك من الناس من يأخذ معارفه عن طريق الملائكة، وذلك لما يعتقده من أن الملائكة أفضل منه. وجوهره إيجاد صلة مـع ملك معين واخذ المعارف التي توصله إلى غايته منه. وهذا كذلك من طرق الكمال ولكنه لا يخلو من إشكالات، اذكر منها  :

   أولا : إن الملائكـة أصحاب كمال متوقف لأنهم اختاروا الطريق الأبسط والأسلم فكان لكل مَلك كماله الخاص وخطه الخاص به الذي يحوي على درجـات مـن الكمال ولكنه خط متناهي. فإن أخذ الإنسان معارفه عن طريق الملائكة فسوف يتوقف عند كمال ذلك الملك، والإنسان أسرع تكاملاً من الملائكة. وهذا مما لا يخدم الإنسان في غايته اللانهائية. بل يكون فيه ظلم لأن الحـق أعطى للإنسان اسـتعداداً مطلـقاً مـن اجـل الكمــال المطلـق فان ظَلم شيء من ذلك فذلك هو الظلم العظيم .

   ثانيا : إن طـريق الملائكـة يخـتلف عـن طـريق أئمتنا ( ع ) إذ ليس للملائكـة طاقـة لسلوك طريقنا، لأن طريق الملائكة هو طريق عبـادي متوقف، وطريق أئمتنا هو طريق معرفي يتضمن العبادي وغيره ولا يتوقف على الكمالات المرتبطة بالعبادة. والبقاء بعد كمالية المقام حجاب. أما استعداد الملائكـة فإنه لا يتجـاوز الوصـول إلى عـالم الجـبروت حيث نهاية كمـالهم. فيكـون عطـاء الملـك لمن يأخذ منه هو ما يكون داخل الخـط الكمـالي الخـاص بعـالم الملائكـة عموماً أو لذلك الملك خصوصا عند الدقة.

   ثالثـا : أن الملائكـة ليس لهـم معرفــة كاملــة بــالذات الإنسانية فمن الصعـب عليهـم معالجـة الأمراض الباطنية التي يتعـرض لهـا طالب الكمال أو المريـد له لان علاج هذه الأمراض يحتـاج إلى أمرين  :

   الأمر الأول : معرفة النفس. وهذا لا يكون إلا في الوصـول، والملائكة محجوبون عن الوصول للعالم الرابع على تقسـيم العـوالم، ونهايـة الملائكـة هو العالم الثالث كما قلنا.

   الأمر الثـاني : إن عـلاج الأمراض الباطنية يعتمد على معرفة جزئيات عـالم النفس والتداخـل فيـه وهـذا محال على الملائكة لسببين :

   السبب الأول : إن هيئـة الملائكة تحجـبهم عــن معايشــة النفس الإنسانية بالمعايشة المطلوبة.

   السبب الثـاني : إن التداخـل فـي النفس بـالمقدار الذي ذكرناه لا يكـون إلا في السفر الرابع وهذا مما حجبت عنه أكثر الملائكة لعدم وجود الهيئة الإنسانية.

   رابعاً :  حسب النظام الباطني إن المشيخة لا تكون إلا في السفر الـرابع وهم محجوبين عنه كما ذكرنا.

   فيكون هذا الطريق عاجزاً عن إيصال الإنسان إلى غايته التكوينيـة.

   نعم إن الحق يفتح لبعض الناس هذه الطرق وذلـك لأمرين . همـا:

   الأول : الإرادة الإنسانية لذلك، وهي تعود إلى أصل نفسـي حـيث اختيـار الأدنى دون الأعلى.

   والثاني : هو ضعف استعدادهم وعدم مقدرتهم على اتخاذ الطريق الاوجب. لكن اتخاذ هذه الطرق هو أكمل من البقاء في عالم الغفلة، وفيها احتمال كبير من أن مريدها يستطيع أن يتحول منها إلى الطريق الأسمى. والنتيجة هي أن هذه الطرق عاجزة عن إيصال الإنسان إلى غايته التكوينية.

   أما الطـريق الخامس : فهو طريق العارفين إي المشيخة بالنظر ألعرفاني لان المشـيخة تخـتلف في العرفـان عـن غيره. وان كان اختلاف في الجزئيات.

وملخصه أن يأخذ المريد معارفه الأولية عن طـريق أحد العـارفين الـواصلين والداخلين في مقام المشيخة فيكـون الشـيخ هـو المسؤول عـن المريد ودخوله في الطريق ووصولـه إلى المعرفـة. وهـذا أسمى الطرق للمسير في الكمال المطلـوب وذلـك لأمور:

   أولاً : إن هذا الطريق هو الطريق الذي سـار عليـه أئمتنا عليهـم السـلام بـل الأنبياء في الطرق السـابقة فقد كانوا أصحاب توارث علمي كمـا ورد عن الإمام الصـادق ( ع ) : ( لا يموت عالم إلا ترك من يعلم مثل علمه أو ما شـاء الله ) فقد كانوا يورثون علمهم لمن كان بعدهم. لكن ليس معنى هذا أن المريد يأخذ معارفه الحقيقية من شيخه، إنما المعـارف البدائيـة وغالبـا ما تقترن بعمل أما المعارف الحقيقية فإنما تؤخذ بالمكاشفة.

   وكذلك ورد حث على هذا الطريق في الكتاب الكريم مما بينه الحق تعالى في سورة الكهف حيث أوجب الحق تعالى على موسى (ع) أن يكون له شيخ يتمم كماله عن طريقه. وكما أجمع العرفاء وأرباب القلوب والمكاشفة من أن مَـن لا شـيخ لـه فشيخه الشيطان. وهكذا هي سيرة أهل الحق في كل عصر سواء كان العرفان الإسلامي أو ما قبله.

   ثانيا : إن الأسرار الإلهية من الصعب تحملها لأنها تحتاج إلى اسـتعداد عـالٍ وهـذا الاستعداد في مراتب متأخرة متعذر على غـير الإنسان حـيث اسـتعداده اللامتنـاهي المؤهل للمسير في الكمال اللامتناهي.

   ثالثـا : إن عمـل المريد يكون على حسب ما يراه شيخه، فلو كُـلف الإنسان أكثر مـن تحمله فسوف تنفر النفس من ذلك مما يـؤدي إلى خروجها عن الطريق الصحيح أو تسافلها.

   أما الشيخ فهـو صـاحب معرفـة باسـتعداد المريد ومدى تحمله، ولا يكلف النفس إلا ما تيسر لها من تحمل.

   رابعا : إن الإنسان هو أكثر معرفة بنفسه واعني مجموع الإنسان من غيره، فالعارف ذو معرفـة كاملـة بـالنفس. فيسيّر المريد على طريقـه الخـاص به، والناس يختلفون في الجزئيات فمـن الصعـب عـلى الفرد معرفة استعداده الشخصي، وكيفية سيطرة النفس عليه، ومـا درجـة تلـك السيطرة، وطرق الدخول للباطن وغيرها من المعارف التي تؤهلـه لأخذ خطـه المطلوب فلا يتيسر ذلك إلا لمن هو مُلمٌ بكل هـذه التفـاصيل بالمعايشـة الذوقية أو بالكشف الحقيقي لا غير، ولا نريد أن نطيل فهذه من الأمور المسلمة لدى أصحاب الحقيقة. فيكون طريق العارفين هو الطريق الوحـيد الموصـل للغايـة الواجبـة.

   هذا وقـد أوجب الحـق تعالى عـلى العـارفين أن يضعوا معارفهم عند من هم أهلها. وذلك لكي لا تخـلوا الأرض من الأولياء لان الحق بهم يحفظ الأرض ومن عليها. وكمـا ورد عن الأمير ( ع ) في خطبته التي يصف بها رجال الله  قوله : ( يحفظ الله بهم حججه وبيناته حتى يودعوها نظرائهم ويزرعوها في قلوب أشباههم ) فكل عارف لا يودع معرفة لمن هو أهله فهو محاسب عن ذلك.

   فهذا هو الطريق ألأصلح للوصول لمعرفة الحق سبحانه .

   أما علاقة المريد بشيخه :

   فهي علاقة معنوية بما أن الشيخ هو الأب المعنـوي للمريد أي الأب الحقيقي، لان الحقائق في المعنويات وهـي الأصل فـي كـل الأشياء. فيكون الشيخ أولى من المريدين بأنفسهم لمعـرفته مصلحـة المريد أكثر من المريد نفسه.

   فيرجـع المريد لشـيخه فـي كل الأمور التي تخص طريقه. أما الأمور الأخرى فليس للشـيخ حظاً منها.

   وهذه العلاقة تكون في السـفر الأول، والمـدار الأصلي لذلك هو أداء التكاليف التي يعطيهـا الشـيخ للطالب، أما إذا دخل المريد السفر الثاني سوف يستغني عن شيخه حيث يكون من الحجب التي تحجبه عن الحق ( هذا في الباطن ). والدخول للسفر الثاني به يأخذ المريد عن الحق،  فليس للشـيخ علاقة بذلك وهذه هي من المراحل العالية والتي لا تتأتى إلا بعـد تجـاوز عـالم النفس وعالم القلب وعالم العقل إلى أن يصل إلى عـالم الـروح.

   أما آداب المريد مع شيخه :

   فأكثرهـا آدابٌ أخلاقيـة ولكـن هنـاك بعض الأمور المطلوبة من المريد تجاه شيخه منها :

   أولا : الثقـة الكاملـة بالشـيخ الناتجة من الثقة بالحق، فيجب عـلى المريد أن تكـون له ثقة بشيخه، فلا يدخل شيء من الشك في أي أمر من أوامر الشيخ، لأنه معرّض لاختبارات من ناحية الثقة، فأي شك سوف يكون ظلماً للشيخ مما يؤدي إلى تضعيف الصلة ومنها إلى قطعها. ومصدر الثقة هو قوة الإيمان واليقين بالحق تعالى.

   ثانيا : يجب أن تكون لدى طالب الكمال النباهة الكافية لفهم مراد الشـيخ، وهذا يعتمد على الذكاء والحافظة.
         
   فيجب أن تكون له نباهة حتى لحركات شيخه حيث أن العـارف حق العارف لا يفعل أي شيء عن عبث إنما لكل فعل حكمته ، وان كـان ظاهره ليس كذلك ولكن من كانت له قوة فكر أدرك ذلك. وقد لمسنا ذلك في بداية مسيرنا فكانت تصدر من شيخنا ( أدام الله فيضه ) بعض الأفعال والأقوال التي ظاهرها التناقض أو عدم الحكمة ولكن بعد التفكر بها مع اليقين به وجدنا أن هذه الأفعال والأقوال في غاية الحكمة وفائدتها الكمالية أعظم مما لو كانت بأسلوب مباشر وصريح. فبهذين الأمرين يجتاز المريد أكثر الاختبارات.

   وأيضاً من الواجب على طالب الكمال تجاه شيخه طاعته طاعـةً كاملةً ويجب أن تكون عمياء أي يعمل المريد بأوامر شيخه دون السـؤال أو الاعـتراض أو غـيرها مـن منافيات الطاعة. نعم إذا تجاوز بعض المقامات انتقل إلى الطاعة المبصرة فيرى المصلحـة من التكليف. وطاعة الشيخ هي من طاعة الحـق لأنه خليفـة الحـق.

   أما بالنسـبة لمقام الشيخ. فإن المشـيخة مـن المقامـات العليا فـي العرفان ولا يكون الفرد شيخاً إلا بعد الوصول. أما لو قام المريد ـ في أي مقام كان ـ بتربية إنسان آخر فسوف يضر كمال الاثنين. وأيضاً ليس كل من وصل إلى المعرفة أصبح شيخاً، فكثير من العرفاء ليسوا أهلا للمشيخة لأن العرفان في السفر الثاني والمشيخة في الرابع.

   هذا ويجب أن يصل الإنسان إلى المعرفة بالمعايشة الروحية، أما الوصول بغير المعايشة فليس وصولاً إنما هو حجاب عن الوصول. وكذلك في مقام المشيخة تكون معرفة النفس ومعرفة الأمراض وعلاجها، وكيفية سيطرة النفس على الإنسان والعكس، والأساليب التي من خلالها يكون التمييز والفصل بين الخواطر، ومعرفة العلائق والحجب المصاحبة للكمال ومنها حب المعرفة فربما تولدت لدى المريد حب للمعرفة علما أن هدف المريد هو الكمال وليس المعرفة، والمعرفة ليست هي الكمال إنما هي طريق الكمال. فهذه الأمور وغيرها لا تعرف بالدقة إلا بعد دخول السفر الرابع.

   أما بالنسـبة لعمـل الشـيخ :  فهو عمل واسع، ولكن نستطيع أن نتحدث عن بعضه باختصار. فمن أعمال الشيخ خلق استعداد لـدى طالب الكمال بأساليب يعرفها الشيخ وذلك لاستقبال التكليف وأداءه، أو لاستقبال المعرفة إن كان من أهلها، وكذلك لدخول مقامـات يجـب أن يدخلهـا، نعم الاستعداد موجود لكن يصعب على الإنسان اسـتغلاله لان لكل مقام استعداده الخاص، وربما تخـالف النفس ذلـك الاسـتعداد لغرابتـه عـلى النفس أو لوجود الصعوبـة النفسـية لاسـتغلاله. ومـن عمله كذلك هو تنظيم مسير المريد وعدم خروجه عن خطه بما أن النفس تحاول إخراج المريد من خطه الذي يستحقه بإيجاد أفعال نفسية يكـون في تطبيقها الخروج إلى نظام آخر،  وهذا ما هو جديد على طالب الكمال فيحتـاج إلى معرفته، ولافتقاره في هذه المرحلة الحكم الداخلي.

   وكـذلك من أعمال الشيخ غلق جميع الأبواب النفسية المطلّة على القلب أو العقل التي تعرقل المريد فـي مسيره. ويجري الشيخ الاختبارات للمريد والتي بدورها تؤدي إلى نتائج كبيرة في التقدم الكمالي، والاختبار في المقام وعند الخروج منـه عـلى اقـل معدل. ومنه أيضاً إزالة الحجب التي تحجب المريد عند نـزول المعـارف.

   أما كيفية معرفة الشيخ المؤهل للتربية فهذا من أصعب الأمور على المستوى العقلي ولكن بصفاء النية والطلب الحقيقي من الله تعالى وحسن الظن به يهيئ الله له من يدله عليه.
  
( هذا ونسأله أن يأخذ بأيدي عباده )





جديد قسم : فيوضات من الباطن

إرسال تعليق